الصرخة التي استنفرت الكابرانات!
لم يكن حتى أكبر المتفائلين بانتصار الثورات الشعبية في البلدان الدكتاتورية، يتصور أن يأتي يوم تتهاوى فيه أركان النظام السوري الظالم في أقل من أسبوعين فقط، بعد أن ظل بفضل حلفائه الروس والإيرانيين والعسكر الجزائري أيضا، صامدا في وجه المعارضة السورية المسلحة بقيادة أحمد الشرع الملقب ب”أبو محمد الجولاني” لأزيد من 13 سنة، حيث لم يجد الرئيس الطاغية بشار الأسد من سبيل للإفلات من حبل المشنقة، عقابا على ما أقدم عليه من جرائم حرب ضد شعبه، عدا النفاذ بجلده والانسلال من قصره مع الخيوط الأولى من فجر يوم الأحد 8 دجنبر 2024 متجها عبر طائرة خاصة صوب روسيا.
ولأن هذا الحدث المباغت بث القلق والتوجس في أوساط الكثير من الحكام العرب المستبدين وفي مقدمتهم حكام قصر المرادية في الجارة الشرقية الجزائر، خوفا من أن يأتي الدور القادم بعد الإطاحة بنظام المجرم “بشار” على نظامهم العسكري الفاسد والبائد، الذي كان حليفا وفيا له بامتياز، لاسيما بعد أن سارع عدد من أحرار وحرائر الجزائر إلى تداول مقاطع فيديو توثق لحالة التردي التي آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وإطلاق صرخة مدوية في شكل حملة رقمية تحت عنوان “مرانيش راضي”، لقيت تجاوبا واسعا ومشجعا من قبل كافة شرائح المجتمع الجزائري التواق إلى الحرية والعيش الكريم، صرخة تعبر عن مدى تذمرهم من ظروف العيش القاسية، وتطالب بإسقاط حكم العسكر وإقامة دولة مدنية وديمقراطية.
فإن الحاكم الفعلي في الجزائر شنقريحة وأفراد عصابته لم يجدوا أمامهم من وسيلة لمحاولة الالتفاف على هذه الانتفاضة الشعبية عدا الهروب إلى الأمام، من خلال ما دأبوا على صناعته من أكاذيب واتهامات باطلة لجهات خارجية وعلى رأسها المغرب الذي يعتبرونه عدوا تقليديا يستهدف بلادهم ويهدد أمنها واستقرارها. لكنهم أبوا هذه المرة إلا أن يوجهوا أصابع الاتهام بخصوص الصرخة القوية المنددة بغطرسة الكابرانات، إلى فرنسا كذلك لكونها اختارت الاصطفاف ضمن الدول الداعمة لمبادرة الحكم الذاتي للصحراء تحت السيادة المغربية، بدعوى أنها تسعى هي الأخرى إلى محاولة زعزعة استقرار البلاد، معتمدين في ذلك على أبواقهم الإعلامية الموجهة.
إذ أنه مباشرة بعد إجبار الرعديد السوري “بشار الأسد” على الفرار خارج البلاد، سارع التلفزيون الجزائري كعادته مساء يوم الإثنين 9 دجنبر 2024 إلى عرض مسرحية جديدة من إنتاج المخابرات الجزائرية، لا تقل سخافة ورداءة عن سابقاتها، من خلال شريط وثائقي تحت عنوان “فشل المؤامرة، صقور الجزائر تنتصر” زعم صانعو محتواه بأن مصالح الأمن الوطني الجزائري، استطاعت بكفاءتها المعهودة إحباط المؤامرة التي خططت لها المخابرات الفرنسية، بعد أن جندت لها شابا جزائريا يبلغ من العمر 35 سنة نشأ في المهجر، بهدف زعزعة استقرا الجزائر.
وبما أن حيلة “المؤامرة الخارجية” باتت مستهلكة ولم تعد تجدي نفعا في طمس الحقائق التي تكاد تفقأ العيون، وخشية من انبعاث حراك شعبي جديد أقوى من ذلك الذي عرفته الجزائر خلال عام 2019، فإن سلطات النظام العسكري لجأت مساء يوم الأحد 22 دجنبر 2024 إلى شن حملة اعتقالات “مجنونة” على كل من تشتم فيه رائحة التمرد على “حكم العسكر” والتنديد بتردي الأوضاع، وخاصة في صفوف الشباب الذي يشتبه في إطلاقهم لتلك الصرخة القوية “مرانيش-راضي”، التي أرادوا من خلالها إسماع صوت الشعب الجزائري المقهور للعالم، والكشف عن حجم امتعاضهم وعدم رضاهم على ما يعانون من تهميش وتجويع وقمع وتدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ورفضهم البات لاستمرار التدبير العسكري السيء للشأن العام…
ففي ضوء عمليات الترهيب والاعتقالات التعسفية الواسعة التي عمت أرجاء البلاد، وشملت أعدادا غفيرة من النشطاء والمتفاعلين مع تلك الصرخة المدوية عبر منصات التواصل الاجتماعي، الرافضين لكل أشكال القهر والظلم الحرمان وتردي الأوضاع في ظل احتكار النظام العسكري المستبد والفاسد للسلطة وتبديد ثروات البلاد ومقدراتها على كيانات وهمية وعدد من المرتزقة هنا وهناك عبر العالم، دخل على الخط معارضون جزائريون في الخارج إلى جانب منظمة “شعاع لحقوق الإنسان” الجزائرية، التي يوجد مقرها بالعاصمة البريطانية لندن، لشجب هذه الاعتقالات الجائرة والمستمرة، مشددين على ضرورة احترام الحق في التظاهر السلمي وإبداء الرأي بكل حرية، وفسح المجال أمام المواطنات والمواطنين الجزائريين للكشف عن أوجاعهم ومشاكلهم، منبهين إلى خطورة تداعيات ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وما يتعرض له المواطنون من تسلط وهجوم على قدرتهم الشرائية، وداعين إلى التعجيل بإطلاق سراح المعتقلين، واحترام السلطات التزاماتها الدولية فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحرية التعبير، بعيدا عن مختلف أنواع الترهيب والقمع والمحاكمات…
إننا واثقون من أن الشعب الجزائري الأبي الذي تحمل الكثير من ألوان الظلم والقهر والتهميش والتجويع والقمع، مصر على الذهاب بعيدا في اتجاه إحداث التغيير المنشود مهما كلفه الأمر من تضحيات، غير مبال بما يروج له الكابرانات من اتهامات باطلة للمغرب وفرنسا، وحريص على الدفاع عن مطالبه وانتزاع حقوقه المهضومة بكل ما أوتي من قوة ورباطة جأش، وعلى رأسها إسقاط حكم العسكر المقيت، وإرساء أسس دولة مدنية ديمقراطية، من شأنها ضمان ممارسة إرادة الشعب، تحقيق تنمية بشرية مستدامة، تعزيز العدالة الاجتماعية، توفير الحرية والعيش الكريم للمواطنين، والحفاظ على الثروات الطبيعية.
اسماعيل الحلوتي