الزلزال والمتسولون الجدد
الزلزال والمتسولون الجدد
عبد السلام المساوي
نعم فهم المغاربة في هذه الظروف العصيبة ، ظروف كارثة الزلزال الأليمة ، أن هناك مهنة قائمة بذاتها تسمى الصحافة يمارسها مهنيون يسمون الصحافيين ، يعرفون الفرق بين الأجناس المشكلة لهاته المهنة ، لا يكتفون بحمل الميكروفونات في أيديهم ومدها للجميع ، ولا يعتقدون أن مجرد التوفر على هاتف نقال جديد هو أمر يعطيك بطاقة الممارسة المهنية ، يمضون أيامهم والليالي في مطاردة أخبار الكل هنا وهناك وفي التأكد من هاته الأخبار ، أو نفيها قبل نشرها على العموم .
يشتغلون في هيآت منظمة تعطيهم مقابل الحرفة التي يمتهنونها ، وتؤدي الضرائب الكثيرة والواجبات الأكثر ، وتلتزم بقوانين عديدة ، وتخضع لضوابط لا حصر لها ، وتعاني من منافسة غير شريفة إطلاقا مع الفوضى العارمة وحواسها التي ضربت الميدان في مقتل منذ سنوات كثيرة .
بح صوت المهنيين وهم يقولون ” إننا نحتاج صحافة جادة وجدية يصدقها الناس حين الضرورة …” .
ضاعت الحبال الصوتية للمنتمين المساكين لهاته المهنة يصرخون ” حكاية المواطن / الصحافي في هاته التي يختفي عددكبير من النصابين والأدعياء خلفها لن تؤدي بنا إلا الى الهلاك ” ، أصيب المهنيون اخيرا بالخرس بعد أن فهموا ألا احد يريد تصديقهم وهم يقولون بديهية صغيرة : ” الصحافة مهنة ولا يمكنها أن تكون حظيرة تجمع كل من هب ودب ” .
اليوم ، ها نحن نشرع في الاستيعاب المؤلم لهاته البديهية ، والدولة تشرع في الضرب بيد من حديد على كل من يستسهل نشر أي شيء دون ان تتوفر له أية خاصية من خاصيات النشر وهذه لوحدها مسألة إيجابية ومطلوبة .
اليوم هاهي القنوات التي كان الجهة يسمونها ” المؤثرة ” والفاعلة في الأنترنيت المغربي تضربنا بسفاهتها وهي تتندر في كارثة أليمة خلفت ضحايا وخسائر جسيمة ، أو وهي تعتقد ان الشهرة الزائفة التي أصبحت لها تعطيها الحق في أن تكذب على الناس ، وفي أن تروع الناس ، وفي أن تختلق الأخبار مثلما دأبت على ذلك منذ القديم ، سوى أن الموضوع هاته المرة لا هزل فيه ولا لعب .
اليوم ها نحن نفهم ان خاصية ” اللايف ” المتاحة لك في مواقع التواصل الاجتماعي لا تعطيك لوحدها شرعية مخاطبة الناس اذا لم تكن تتوفر على مؤهلات مخاطبة هؤلاء الناس .
” إذا لم تستح فكن مؤثرا يصور نفسه في جبال الأطلس الكبير وهو يساعد المنكوبين .
إذا لم تستح ، انس من ماتوا ، وانس من جرحوا ، وانس الصغار اليتامى ، وانس الأرامل التائهات ، وتذكر فقط أن لديك قناة تافهة ، أو حسابا أتفه في مواقع التواصل الاجتماعي ، لا يجب أن يظلا فارغين ، ومن الضروري تزويدهما على رأس الساعة بالجديد من أجل جمهورك العزيز ، وبقية البذاءات التي طبعنا معها حتى صارت كالعادية اليوم .
إذا لم تستح ، فقل في قرارة نفسك ” هاد الهوتة ديال الزلزال ما خصهاش تضيع ” ، وقم بسرعة بالعمليات الحسابية التي تتقن القيام بها ، وستكتشف أن اشتراء بعض اللوازم الضرورية ، ليس للسكان ، لكن لك لكي تجد ما تصوره وأنت في الطريق ، زائد ثمن الوقود وثمن التصوير وهو قليل ، كل ذلك سيجلب لك مبالغ أكبر عندما يصل بالآسندس مداه ، وفي نهاية شتنبر الحزين هذا ستدخل الى رصيدك ملاليم إضافية تعتقدها أنت ربحا ، ويراها من ينظرون بقلوبهم الخسران المبين .
اذا لم تستح ، قل إنك ناشط ، وقل إنك فاعل ، وقل إنك مؤثر ، وقل إنك يوتيوبر ، وقل إنك تيكتوكر طار عن عينيه النوم منذ الجمعة الحزينة ، وقرر أن يخصص عمره كله للتصوير في أعالي الجبال ، لا طمعا في ربح مادي صغير ، بل تعاطفا مع الفقراء والفقيرات ، وإعانة مجانية لوجه الله ، دون نسيان إلقاء اللعنة على الكاذبين.
القلة القليلة من الصادقين من أهل العمل التطوعي الخيري الذين يقومون به دون إشهار يفسده ، ودون تصوير وبهرجة ، ضاعت بين جحافل المتسولين الجدد هؤلاء الذين اكتشفوا عملا مدرا للربح لا يتطلب أي جهد سوى تصوير النفس والناس والمتاجرة بهما في كل شيء .
في السابق كنا نرى تفاهاتهم ونعبر ، ونقول إن مجرد التوقف للحديث عنهم أمر سيعطيهم قيمة لم تكن لهم أبدا .
أما اليوم ، ومع وصول حقارتهم إلى مصيبة عظمى مست المغرب كله ، مثل الزلزال ، رأوا فيها هي الأخرى فرصة لسرقة المزيد من مال المنبهرين الأغبياء بهم الذين يتابعون رداءاتهم ، فهنا وجب التوقف كثيرا وليس قليلا ، لكي نقول للجميع إن آفة المؤثرين هاته قد وصلت فعلا المناطق غير المسموح بوصولها ، وأن جهة يجب أن تجد طريقة ما لوقف كل هذا النصب وهذا الاحتيال . ” لغزيوي – الأحداث المغربية العدد 7995.
أهل المهنة الحقيقيون ، وهم يرون الناس تعود الى المرتكزات الأولى ، وتحاول أن تبحث عن الخبر الحقيقي من مصادره المعتد بها ، والتي صنعت على امتداد التاريخ جديتها وبصمتها يحسون بنوع من إعادة الاعتبار اليهم بعد أن تم قصفهم طيلة السنوات الأخيرة التي مرت بعبارة ” ماتت الصحافة التقليدية ” ، ” الزمن اليوم هو زمن البوز أيتها الديناصورات ” ، ” هؤلاء المؤثرون الجدد أصبحوا صحافة الوقت الحالي ، لقد مضى عهدكم أيها القدامى ، ناموا في قبوركم …”
العديدون ازدردوا حزنهم على مضض ، وواصلوا العمل وفق الطريقة التي تعلموها وأحبوها واحترموها وقالوا في قرارة أنفسهم : اذا كان ضروريا ان يقال لنا اننا متنا فلنصحب معنا مهنتنا الى القبر ، لن نتركها لهؤلاء الجهلة لكي يعربدوا فيها مثل ما يشاؤون ” .
الحاجة اليوم ماسة لصحافة مواطنة ، جادة وجدية تنقل الأخبار الموثوق منها والصحيحة الى الناس تواكب هذا الابداع المغربي في مجال مقاومة المرض بوطنية وبتقدير حقيقين ، تقفل الباب على المتسللين سهوا إلى ميدان الصحافة . وهم كثر ….فهناك من يصر على أن يظل الوحيد الذي يستفيد من هذا الميدان غير المدر للدخل بالنسبة لأبنائه الأصليين ، الوفير الأرباح بالنسبة لعدد كبير من المتسلطين عليه …
نكاد نؤمن ان الزمن القادم ، بعد الزلزال سيحمل معه الى زواله كثيرا من الأدعياء والمتسللين ومنتحلي الصفات عنا ، وسيعيد الى هذا الميدان قليلا من الاحترام الذي كان عليه ، وسيجعل من المتعففين من أبنائه الأصليين وجوهه اللامعة ، وسيلقي بمن تطفلوا عليه كل هاته السنوات الى حيث يجب أن يكونوا .
ستكون هذه الاستفادة أفضل ما قد يقع لنا بعد الزلزال ، وسنعطي بها الدليل أننا استفدنا قليلا من هذا المأساة .
ماذا وإلا سنكون فعلا رموزا لغباء كبير ، إذا ما عدنا إلى السماح لنفس المحتالين والمتسلطين بأن يواصلوا احتيالهم السمج علينا وعلى مهنة الصحافة التي لا زلنا نقدسها رغم كل ما مر عليها من ضربات .