سعيد بنكراد يكتب: “التنسيقيات” الشعبوية وحالات تشظي المعنى..
بقلم: سعيد بنكراد*
*”التنسيقيات” الشعبوية وحالات تشظي المعنى…
هناك معجم سياسي جديد ينتشر اليوم بين الفاعلين السياسيين وهو المتداول في الإعلام المرئي والمسموع أيضا، إنه شبيه بـــ”النوفلانغ” التي تحدث عنها جورج أورويل في كتاباته.
يقتضي هذا المعجم تضمين الكلمات شحنة دلالية جديدة تُعيد تسمية الفعل والفاعل والمفعول، دون أن تغير من طبيعة هؤلاء جميعا.
لقد تخلص الفاعلون في السياسة من التسميات التي تحيل على مواقع اجتماعية يحتلها القائد والمقود والسيد والعبد والمستغِل والمستغَل لتحل محلها تسميات تساوي بين الناس في اللغة دون أن تغير من شرطهم الحقيقي في الواقع.
وذاك كان سبيلهم إلى التخلص من الديمقراطية واستبدالها بتدبير تقني للشأن السياسي يغطي على الصراع الفعلي في المجتمع.
وهكذا لم يعد الناس يتحدثون عن “الشعب”، بل عن “المجتمع المدني”، ولا يتحدثون عن “السيادة” بل عن “التبعية”، ولا يتحدثون عن “القانون” بل عن “البرنامج”، وحلت “الفعالية” محل “العدالة” ومكان “الأهداف” والغايات وضعوا “القواعد” الضابطة للفعل.
وتحول “العمال” إلى “رأس مال بشري”، وأصبحت “النقابات” “شركاء اجتماعيين”.
كما سبق أن تحدثوا عن ” العرض السياسي” و”المنتوج الثقافي” و”سوق الأفكار” الخ.
لقد غيروا لغة السياسة لكي يُغيروا من تصوراتنا عن العمل السياسي.
والحال أننا لا يمكن أن نُخفي حقائق الوجود بحذف الكلمات الدالة عليها في القواميس، إننا نهذبها فقط لكي نحد من قسوتها أو نُغطي على بشاعتها.
وضمن هذه التحولات الجذرية، ظهرت “التنسيقيات” وكل الحركات الاحتجاجية العابرة في ذاكرة السياسة.
لم يكن هذا “الشكل النضالي” بديلا عن العمل النقابي أو رديفا له، ولم يكن سندا لفعل سياسي يحكمه أفق السلطة أو مناهضتها، لقد كان تعبيرا عن “الرغبة” الآنية التي تقتضي تحققا هنا والآن خارج كل غطاء سياسي أو قيمي عدا المردود المادي لما يأتي من الفعل ذاته، فالمحتج لا يحلم، إنه يرغب في إشباع حاجات يفرزها المعيش اليومي، أو توهم بها صور الدعاية فقط.
لقد توارت “زمنية التاريخ” لكي تحل محلها “لحظة راهنة” لا تنتشر خلفا ولا أماما، فهي مشدودة إلى فعل آني تحركه الرغبة وحدها. وضمن هذه الزمنية تتحرك “التنسيقيات”، إنها ليست في حاجة إلى “زمن سياسي” أو إيديولوجي، وليست معنية بتوازنات المجتمع، إنها تتحرك في “الزمن اليومي”، زمن الحاجة والرغبة والنفعي.
وهو ما يعني أنها لا تُسرب الإرادة الإنسانية ضمن دفق الزمن من أجل توجيهه إلى ما يمكن أن يكون أجمل وأفضل، إنها تكتفي باللهاث وراء حقيقة جزئية هي التعبير عن مطلب جزئي، كما تقتضي ذلك اللحظة الاستهلاكية نفسها.
هناك تفاوت كبير بين منطق “الرغبة” وبين منطق “الحقيقة”، فلا أساس للأولى سوى تلبية حاجة عابرة، في حين تخترق الثانية تفاصيل حياة الناس. لذلك يرفض التنسيقي زمنية التاريخ لكي يتشبث بزمنية الإرادة وحدها.
إن التنسيقية لا تقف في وجه ما هو سائد، ولا تقف في وجه آليات الاستغلال، فتلك بقايا الزمنية في الفضاء السياسي.
لذلك لم تعد الممارسة في النضال “التنسيقي” جزءا من شرط إنساني يهفو إلى التقدم، بل أصبحت “ممرا عابرا” نحو تحقيق حاجة هي ممر جديد نحو حاجة جديدة وهكذا دواليك.
وتلك طبيعة الحاجات في المجتمع الاستهلاكي، إنها شرط وجود الناس، لذلك لا يعمل الإشهار على إشباعها، إنه يوجهها لكي تصبح وسيلة للرقي أو سبيلا إلى الانتماء إلى مجموعة بعينها.
إنه يمنح الإنسان كل شيء لكي لا يبدع أي شيء.
إن كثرة الأشياء تحد من إبداعية الإنسان.
فنحن نمتلك كل الآلات لمواجهة كل الأعطاب.
إننا محاطون بالأشياء إلى حد يجعلنا مضافا من مضافاتها، فالآلات هي ما يفكر مكاننا.
إن التنسيقي ليس فردا ينمو مع الآخرين، إنه يتحرك ضدهم طوعا أو بجهل منه.
وذاك ما يكشف عنه الفاصل بين ما يميز مطالب النقابي عن رغبات التنسيقي: الأول يجمع بين كل المنتمين إلى قطاع بعينه، أما الثاني فلا يستهدف سوى فئة منهم.
وذاك هو الفاصل بين الشعار الإشهاري وبين الشعار السياسي: “الأول يميز بين الأفراد، أما الثاني فيجمع بينهم، غاية الأول هي البيع، أما أهداف الثاني فهي الوصول إلى السلطة”.
إن التنسيقية، استنادا إلى ذلك، تُسقط زمن الفعل ضمن اللحظة، أي تحدده باعتباره “سلة” ( زكي العايدي)، أي كَــمَّا بلا شكل يراكم دون استشراف لمستقبل ممكن الوجود، إنه ليس “مَنْفذا” منفتحا على الآتي. لذلك لن يكون في نهاية الأمر سوى حاصل لحظات مُعادة تتكرر في الأشياء وفي تصوراتنا عنها، وبذلك كانت التنسيقية محرومة من أي أفق سياسي/تحرري يُسهم في ما يجب أن يتحقق ويكون ضمانة على ديمومته في الوقت ذاته.
لقد أُعد زمنها “النفعي” لكي يكون حاضنا “للإنسان /الحاضر” ( زكي العايدي) ، إنسان اللحظة أو إنسان “الحاضر الأبدي “، كما يقول ميشال مافيزولي.
لقد فقد الزمن “التنسيقي” امتداداته خارج مدته في لحظة الاحتجاج.
يتعلق الأمر بــ”ركام زمني” هو حاصل لحظات تتكرر في الفعل والحاجة والسلوك. وهي إشارة إلى تعميم لحالة استهلاكية تخلت عن الزمنية الإنسانية من أجل التركيز على الانغماس المتزايد في الاستهلاك، وهو ما يميز الزمنية الراهنة.
فــ”الطقس زمن معلَّق”، وكل معيش يومي هو من طبيعة طقسية، أي مُعادة.
لذلك “كان التكرار ممرا نحو زمن أسطوري أو نحو لازمن”. لذلك لا يتحقق زمن التنسيقية في التقدم، بل في المطالب التي تحققها، وهو الزمن الوحيد القابل للقياس.
وليس غريبا أن تختفي الكثير من التنسيقيات بمجرد ما تصل إلى ما تريده أو بفعل تسويف السلطة أو خوفا من هراوات شرطتها.
إن التنسيقية شبيهة بالفردانية، ففيها الكثير من الذاتانية، إنها ترى العالم من خلال مصالحها دونما اعتبار لمصالح الآخرين، لذلك تفصل بين مصالح من تمثلهم عن مصالح مجموع العاملين في القطاع نفسه (تنسيقيات أساتذة التعليم العالي، وتنسيقيات التعليم الإعدادي والابتدائي والكثير من التنسيقيات التي تظهر وتختفي حسب الحاجة إليها).
لذلك يتخلى “التنسيقي” بسرعة عن انتمائه السياسي من أجل التماهي مع صيغة تنظيمية جديدة تجعله في حِل من أي التزام عدا حضوره العارض والمؤقت في الشارع أو في الفضاء الافتراضي. لذلك كان هذا الفضاء هو الحيِّز المفضل للتنسيقيات.
فهو فضاء “مطواع” كما أن المستهلك “طيِّع” أيضا. لذلك “يناضل” التنسيقي و”يحتج” ويتمرد” كثيرا في “الغياب”، وتلك وسيلته المثلى للتعايش مع واقع يحيط به النقصان من كل الجهات.
ولم يكن الفضاء الافتراضي عند النقابات هو ساحة المواجهة، فقد كان الناس ينزلون إلى الشارع مع بعضهم البعض ويرددون شعارات تتغنى بحتمية النصر في “الحضور”، ويحملون لافتات تخطها أقلام حقيقية وتزين فضاءات حقيقية أيضا. لم يكن الفرد/المناضل هوية مفردة مرصعة بصور توضع في حسابات شبكات التواصل الاجتماعي يمكن أن تُضاف إلى “فتوحات” الـمُبحر في العالم الافتراضي، بل كان كيانا يتحدد ضمن جموع غفيرة تسير تحت يافطة موحدة تحتفي بالعمل الجماعي وحده.
وهذا ما يُفسر أن التنسيقيات بلا قائد ولا زعيم ولا كاريزما، إنها ليست في حاجة إلى ذلك، إنها تحتاج إلى “ناطق” باسمها في لحظة الاحتجاج. فالزعيم صوت يخترق التاريخ، أما الناطق فصوت عابر في ذاكرة الاحتجاج.
إن التنسيقي ينزل إلى الشارع مفصولا عن كل سند طبقي، لأنه يتنكر لكل الطبقات، فهو يضع فئة صغيرة بديلا عن المجتمع كله. فلا يحضر المجتمع في ذاكرة التنسيقي باعتباره بناء كليا، أي نسيجا من القيم والعلاقات الإنسانية، بل باعتباره “ركاما” أي حالات متشظية تستعصي على الضبط.
إنه يشير إلى فعل عمودي يخترق كل الطبقات وسيقود حتما إلى التخلص من كل تصنيف طبقي. وتلك هي حالة المستهلك، إنه يبحث عن سعادته في الأشياء التي يملكها أو التي يمكن أن تكون في حوزته، لا في ما يمكن أن يغير من كينونته.
لذلك لا يُعد المطلب عند التنسيقي أفقا يراكم من أجل التحول، بل حاجة يجب أن تُلبى في انتظار ظهور حاجة أخرى.
وحالة “السترات الصفراء” (gilets jaunes) في فرنسا ليست غريبة عن هذا التوصيف أيضا، وقد كانت شبيهة بكل حركات “ارحل”.
فلم يكن العنف الذي مارسته فئات كثيرة من الذين نزلوا إلى الشارع نضالا، ولم يكن فوضى بلا غاية ولا وجهة أيضا، لقد كان تفريغا لحقد دفين على سلطة أخذت بيسارها ووسطها ويمينها كل شيء من الناس.
لذلك ضمت في صفوفها شيوعيين تائبين واشتراكيين ويمينيين متطرفين ومن لا انتماء لهم على الإطلاق. لذلك ابتلعها النسيان، كما ابتلع قبلها حركة ” المرابطون ليلا” (nuit debout) .
إن “التنسيقية” في جزء كبير من مضمونها ليست نقابة، بل قد تكون، على العكس من ذلك، مناهضة لها، إنها وُلدت على هامشها أو ضدا عليها أو خارج تقاليدها.
فالنقابة مؤسسة أفرزتها الدولة الحديثة، إنها بذلك تُدرج المطالب ضمن سيرورة محكومة بزمنية سياسية، إنها تُصالح بين متطلبات الأفراد والجماعات وبين ما يحافظ على توازنات الإنفاق وتوزيع الثروة الوطنية.
أما التنسيقية، فوليدة “رغبة” آنية تتلخص في الحصول على مطالب يجب أن تتحقق الآن وهنا خارج “السياق” السياسي والاجتماعي.
وهي بذلك عابرة في ذاكرة الناس. لذلك، تنفك عرى التنسيقيات بمجرد ما يتحقق المطلب، أو بمجرد ما تختفي الفئة التي تعبر عنها (الزنزانة رقم 9، دكاترة فرنسا والكثير من التنسيقات التي ظهرت واختفت ولم يعد أحد يذكرها).
إن النقابي صوت في المؤسسة، إنه إفراز من إفرازات تمثيلية تجمع بين ما يُنتجه المجتمع من خيرات وبين ما يقتضي الدفاع عن المنتجين في المعامل والضيعات. فالنقابي يطالب ويقترح ويعمل على تحسين شروط الإنتاج. إنه جزء من نشاط يجعل العمل يافطة لكينونة جوهرها العمل.
أما التنسيقي فيعيش خارج السياق التمثيلي، إنه إفراز للحظة احتجاجية تختار أشد الناس غضبا واندفاعا لتمثيل المحتجين.
وبطبيعته تلك يتحول بسهولة إلى أداة طيّعة عند كل من يحاول الوصول إلى السلطة دون مشروع سياسي أو اجتماعي (توددت الكثير من الأحزاب إلى رموز 20 فبراير رغبة في تأميم نضالاتهم، وتفرق دم هؤلاء على كل الأحزاب من اليمين إلى اليسار) .
لذلك لا يُمثل المحتج عند السلطة سوى هامش ضئيل، غضْبة عابرة في الشارع أو في الصور، إنه يتحرك ضمن “وقت ضائع”، إنه وسيلتها لتدبير زمنية لا أفق لها، وتلك هي زمنية السلطة دائما.
وذلك ما يجعل حل مشكلة عندها يُفضي في الكثير من الحالات إلى خلق الكثير من المشاكل (يُقال أيضا إن الكثير من العاطلين أو المعطلين من حركة 20 فبراير تخلوا بسهولة عن التنسيقيات والحركة كلها بمجرد ما حصلوا على مناصب شغل).
إن النقابة وسيط بين الدولة والمجتمع، وهي بذلك جزء من أدوات الضبط السياسي، إن لم يكن الاجتماعي، فالفرد لا يخرج من تلقاء نفسه لمواجهة الدولة، فالدولة تتحكم، عبر النقابة، في اندفاعه وتوجهه وفق ما لا يمس النظام العام أو لا يهدد أمنها.
إنه يتحرك وفق” متاح سياسي”، أو وفق “خطة نضالية” فيها التصعيد والتهدئة، وفيها المناورة وفيها الكر والفر والكثير من الدهاء السياسي. إنها جزء من آلية تُنظم الاحتجاجات استنادا إلى ما تبيحه قوانين الدولة أو ما توده استراتيجيات من يقف وراء النقابات.
أما التنسيقية فمحدودة في فئة، أو تعبر عن مجموعة تكون في الغالب عرَضية في ذاكرة التصنيف الاجتماعي، إنها التعبير الأمثل عن حاجات أفراد، يمثلون قلة أو كثرة، ولكنهم لا يشكلون، في جميع الحالات، جسما اجتماعيا قارا.
إن التنسيقية تتحرك دائما على هامش القانون أو ضده.
إن الفاصل بينها وبين النقابة هو الفاصل بين ما تريده الإرادة الفردية، وبين ما تقتضيه حقيقة التوازنات في الواقع الاجتماعي والسياسي. وهذا ما يفسر في الغالب أعمال العنف التي تصاحبها.
إن النقابي مناضل سياسي، إنه يضع السياسة أفقا لمطالبه، فهي الضمانة على تطورها وهي التي تحافظ عليها في الزمان.
أما التنسيقي فمُحتج، إنه مشدود إلى مطلب يخص فئة بعينها تختفي في الكثير من الحالات بتحقيق موضوع الاحتجاج. إن النقابي “يفهم” في السياسة، أما التنسيقي فليس رجعيا ولا تقدميا، وليس معنيا باليمين واليسار ولا بالتقليد والحداثة وبكل التصنيفات التي تحدد “موقفا” في السياسة قبل أن تكون فعلا يطالب بحق.
لذلك تضم التنسيقيات في الغالب بين حشود لا شيء يجمع بينها: الرجعيين والتقدميين والعلمانيين والمدافعين عن الأطفال والنساء والأعراق والطوائف الدينية والحاقدين على النظام، وخليطا آخر من إحباطات ورغبات لم تجد طريقها إلى التحقق. لذلك كانت التنسيقية “محايدة”، إنها بلا ذاكرة وبلا امتداد خارج نفسها، وليست طرفا في صراع، إنها لا تولد من رحم السياسة، بل هي في الغالب ابن لاشرعي لها.
تخلق النقابة إحساسا مشتركا بين أعضائها، “رابطا اجتماعيا قائما على انفعالات مشتركة”، وهو من بقايا القطيع فينا. قد يكون ذلك انتماء إلى طبقة بعينها أو إلى قطاع بمشارب متنوعة. فما يوحد العاملين في حالة النقابة ليس مطالب آنية بل مصير مشترك. والعكس هو ما يحدث في التنسيقية: “إنهم جميعا ولكن قلوبهم شتى”.
فلا شيء يجمع بينهم سوى لحظة المطلب وصرخة الاحتجاج.
وقد اتخذت حركة 20 فبراير أيضا شكل “تنسيقيات” جمعت بين كل الغاضبين على أنفسهم وعلى السلطة والمجتمع والتاريخ، والكثير من أحقاد العرق والتعصب الديني. لقد هرب الكثير من الشباب من بيروقراطيات الأحزاب وترهلها ليسقطوا في أحضان “تجمعات” عرضية بلا هوية قادت الكثير منهم إلى الضياع من جديد.
لم تولد النقابة لتختفي، ولم تكن حدثا عارضا في ذاكرة التاريخ، بل كانت دائما جزءا من التوازن في السياسة والاقتصاد، لذلك كانت مَحْكِيا، أي سردية ممتدة في ذاكرة الناس، فهي جزء من محكيات الحلم الإنساني في بناء مجتمعات خالية من كل أشكال العسف والاستغلال.
فالاحتجاج سمة من سمات الإنسان العاقل، لقد بدأ محتجا على نفسه وعلى الطبيعة وعلى نظرائه من جنسه ومن الفصائل الأخرى. لذلك كانت النقابة انتماء، وكانت هوية ومنزلا ومصيرا، كانت جزءا من حياة الناس، كان لها عنوان وواجهة ومقر وتاريخ وأبطال وشهداء وشبيبة وفرع نسائي وأعمال اجتماعية. لقد كان لها جذور في النسيج الاجتماعي. أما التنسيقيات فمنذورة للزوال فهي مرتبطة بغاية محدودة في الزمان وفي المكان.
إن التنسيقة إفراز من إفرازات “المجتمع السائل”، وهي الصفة التي يسندها زيغمونت بومانZygmunt Bauman ، إلى “الحداثة الجديدة”.
إن الإنسان يقتات فيها من العرضي والعادي والمألوف والعابر وغير الدال.
فلا وجود لهدف، فالوجود أساسا هو الهدف.
إنها “مجتمعات سائلة” لأنها لا تحافظ على شكلها لمدة طويلة، فأي ضغط يأتيها من خارجها يغير من شكلها. وهذا مصدر هشاشة العلاقات الإنسانية فيها. فلم يعد ممكنا الحفاظ على فكرة ما مدة طويلة، كما لا يمكن العيش ضمن الروابط والعلاقات ذاتها أيضا لفترة أطول مما تتطلبه لحظة احتجاجية عابرة.
لذلك يتجنب الناس الانخراط في موقف قد يدوم طويلا، إنهم يحافظون دائما على خط للرجعة، خط يمكنهم من التخلص مما نسجوه من علاقات من أجل نسج علاقات أخرى.
وهذه سمة من سمات التنسيقيات، إنها تعقد روابط وتقيم علاقات من أجل غاية، وستنحل هذه الروابط بعد ذلك وينسى التنسيقيون بعضهم البعض. “هناك ميل إلى إحلال مقولة “الشبكة” محل “البنية”، فالبنية بناء كلي مستقل يشد العناصر إلى بعضها البعض، أما الشبكة فهي روابط مطواعة من السهل تفكيكها” . إن جمهور التنسيقيين يتشكل من حشود لن تتمكن أبدا من التحول إلى “عامل جماعي” ( actant collectif) يستوعب فعلا أو أفعالا قابلة للتقعيد وموجهة للمستقبل. إنها لا تندرج ضمن ما يمكن أن يستوعبه الفضاء ويصنفه ضمن خزان لأفعال قابلة للاستذكار.
إن التنسيقية عابرة في ذاكرة التاريخ، إنها منذورة للقمامة ( jetable).
إنها شبيهة بأبطال الرياضة، فهؤلاء لا يُعَمَّرون طويلا في ذاكرة المريدين (les fans). فلا يذكر التاريخ زعيما لتنسيقية ملأ الدنيا وشغل الناس (كما فعل ذلك نوبير الأموي مثلا). إن التنسيقي يتحرك على هامش “الحلم الإنساني”. لقد كانت النقابة صوتا مناهضا للرأسمالية ولجبروتها، أما التنسيقية فمجرد لحظة عابرة فيها. إنها لا تناهض المستغِل، بل تريد رحمته فقط. لذلك تُولد وتضمحل وتختفي نهائيا، لتحل محلها لحظة أخرى دون أن تبني في التاريخ مَحْكِيا يروي تفاصيل صراع الإنسان ضد الظلم. إنها تُشير إلى سلطة “المحايد”، وهي سلطة لا تتصدى للسلطة المنحازة (لأنها طبقية) بل تعمل على تثبيتها. إنها تقتات من فتاتها دون أن تغير من شرط المحتجين فيها.
وقد يكون ظهور التنسيقية إفرازا لإبدال حضاري يتسم بالتشظي، تشظي الحقيقة والمجتمع والعواطف وطغيان الأهواء، إنه الانغماس في “حسية” عمياء تحركها الرغبة وحدها. لقد سقطت المحكيات الكبيرة وسقطت الأحلام وأصاب الجسم الاجتماعي والسياسي وَهَن ولم يعد قادرا على تجديد دمائه بتجديد قيمه نحو الأفضل، لقد انكفأ على نفسه. “لقد جفَّ الرَّابط الحيُّ الَّذي كان يجمع بين المواطن وبين المؤسَّسات.
واختفى الإنسان لصالح المستهلك الَّذي كان من أهمِّ القضايا في الأنتروبولوجيا في النِّصف الثَّاني من القرن الماضي، وابتلع الإنسان الاستهلاكيُّ الإنسانَ السِّياسيَّ، وغرق السِّياسيُّ في الدَّائرة الاستهلاكيَّة، لقد سقط المواطن في الاستعماليِّ ومن الاستعماليِّ إلى المستهلك، لقد انهار كل شيء”.
قد لا تكون التنسيقيات جزءا من الشعبوية بشكل مباشر أيضا، ولكنها ليست غريبة عنها. ففكرة “التمثيلية المباشرة” حاضرة عند كل التنسيقيات. إنها ترفض الوسائط عندما تؤسس “تجمعا” مؤقتا منذورا للزوال، فكل “تمثيلية” عندها محددة بغايات عارضة. وهي أيضا ليست غريبة عن “الشعب الذي يريد …”، فهي الشعب، دون أن يكون هناك ما يثبت أنها هي من يمثله حقا.
وهي ما يقرر في من “يرحل” خارج أفق سياسي لا يكتفي بمعاقبة الفاسد، بل يتصدى للفساد في المقام لأول. ففي جميع هذه الحالات هناك تمجيد أهوج للشعب وحط من شأن المعرفة والعلم واحتقار للنخب والميل إلى الالتصاق باليومي والحسي عبر العودة إلى اللهجات والعاميات على حساب لغات العلم والتحليل المنطقي.
وذاك إفراز للتوزيع الثلاثي الشعبوي الشهير الذي يجعل “الشعب القُح” في مواجهة “نخبة فاسدة” ضدا على “إرادة عامة” هي التي يجب أن تنتصر وتعيد للأمة صفاءها.
لقد فقد الناس ثقتهم في المؤسسات السياسية والنقابية والحزبية وتراجعت التمثيليات، “فباشروا ” نضالهم بشكل “عفوي” خارج وساطات نخب لا تستطيع فكاكا من سلطة ينخرها الفساد من كل الجهات.
هو ذا المنطق الذي يتحكم حقا في وجود التنسيقيات وفي أشكال حضورها في الفضاء العمومي.
*سعيد بنكراد (استاذ جامعي/كاتب وباحث ومترجم مغربي)