خطاب الفصل بين الواقع الشرعي والعالم المنفصل
خطاب الفصل بين الواقع الشرعي والعالم المنفصل
عبد السلام المساوي
تسقط المؤامرات تباعا ، وتتحول إلى سراب في صحراء شاسعة ، يحسبه الخصوم والأعداء ماء زلالا ، ويحسبه المغاربة ضربا من الجنون المزمن ، من قبل كائنات وكيانات اعتقدت ، يوما ، أن بإمكانها انتزاع المغاربة من ترابهم ، أو انتزاع التراب من تحت أقدامهم .
ويأتي الخطاب الملكي في الذكرى 49 لعيد المسيرة الخضراء المظفرة ، للإعلان عن مسيرة وطنية ودولية جديدة ، عنوانها الوضوح ، ورسم الحدود بين العالم الواقعي والحقيقي والشرعي الذي يمثله المغرب في صحرائه وسيادته على كافة ترابه من الريف وطنجة إلى الداخلة والكويرة ، وبين عالم تجمدت أوصاله وأفكاره ومبادراته في منتصف سبعينات القرن الماضي .
إن العالم الأول الذي تحدث عنه جلالة الملك هو العالم الذي يترجم في شكل شراكات وعلاقات تعاون وتفكير في رفاه شعوب المنطقة وتنميتها وتقدمها ، وجنوح للسلم والبناء واحترام استقلال وسيادة الدول ، في مقابل عالم آخر يسعى إلى فصل المنطقة عن محيطها وواقعها ، والزج بها في حسابات أخرى .
لقد فند الخطاب الملكي جميع أطروحات ” العالم المنفصل والجامد ” ، وكشف ثقوبها وعيوبها وأهدافها غير المعلنة ، ومن ذلك أطروحة إجراء استفتاء ، دون أن يجرؤ الطرف المنادي به على إحصاء المحتجزين في مخيمات العار والذل في تندوف الجزائرية .
لقد عرى الخطاب الملكي السامي عن متناقضات الجهات التي تطالب بالاستفتاء في ملف الصحراء في ظل تخلي الأمم المتحدة عنه واستحالة تطبيقه ، مع رفضها السماح بإحصاء المحتجزين بمخيمات العار بتندوف ، حيث يعيش الرهائن في ظروف قاسية من الذل والإهانة والحرمان من أبسط حقوق الإنسان ، واستغلال القاصرين في حمل السلاح ، ورعاية التطرف والإرهاب ، والعلاقات بشبكات الاتجار الدولي في المخدرات بأنواعها .
المنتصر هو من يملي عادة شروطه ، تلك كانت دائما القاعدة …لكن المملكة المغربية لما تنتصر ، ولما تحصد الدعم الدولي المتزايد لسيادتها المشروعة على صحرائها الجنوبية ، وتتبدى أمامها بجلاء آفاق الحسم النهائي لهذه القضية المفتعلة ، لا تسعى أبدا كي تستقوي على أحد ، أو تستبد بالوضع المريح الذي يوجد عليه موقفها ، بل تتحلى برجاحة العقل والرصانة وبعد النظر وتترك دائما مخرجا لخصوم وحدتها ، يجعل من حل الحكم الذاتي فرصة إقليمية كذلك للتعاون وللبناء المشترك والتنمية .
هذا هو المقصد النبيل الذي يرشح من الخطاب القوي للملك في الذكرى 49 للمسيرة الخضراء ، فحين رمز جلالته إلى الجارة الشرقية التي تريد منفذا إلى المحيط الأطلسي ، إلى الدرجة التي لم تستنكف معها أن توحي للمبعوث الأممي بمقترح تقسيم الصحراء المغربية ، وضح لها أن المغرب الذي بادر إلى اقتراح هذا المنفذ على دول الساحل ، لن يمنع ذلك عن من نشترك معهم في أواصر اللغة والدين والتاريخ والدم ، إذا تم في إطار السيادة المغربية التي ليست موضوعا للتفاوض والمساومة ، وقاموا بتغيير أسلوبهم وأصبح لهم نفس هدفه الذي ليس سوى تحقيق مصلحة شعوب المنطقة .
يتواصل تأكيد المغرب وفق الدبلوماسية الحكيمة التي يقودها الملك محمد السادس على أن أهداف التنمية وضمان العيش الكريم لشعوب المنطقة والقارة الإفريقية لا تراجع عنها ، والرسالة التي حملها الخطاب الملكي لمن يستغل قضية الصحراء ، للحصول على منفذ على المحيط الأطلسي ، هي أن المغرب كما يعرف الجميع اقترح مبادرة دولية لتسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي ، في إطار الشراكة والتعاون ، وتحقيق التقدم المشترك لكل شعوب المنطقة .
بهذه الكلمات الرصينة ، يكون جلالته قد مد يده مرة أخرى للجزائر ، ناصحا حكامها بالنزول من عربة الوهم ، وبالنظر إلى الحقائق كما هي على أرض الواقع .
وبذلك ، إذا حاولنا تأويل الخطاب الملكي ، فهو لا يرمي الى حشر هؤلاء الذين يعادون وحدتنا في الزاوية الضيقة ، أو إلى إراقة ماء وجههم ، وإنما يرشدهم بأخلاق الملوك إلى الطريق الصحيح الذي عليهم سلوكه من خلال الجلوس إلى الموائد المستديرة التي يطالبهم بها مجلس الأمن .
قدم المغرب ، من خطاب ملكه السامي الأربعاء 6 نوفمبر 2024 ، العالم الحقيقي مثلما هو للذين يصرون على العيش في عالم الوهم .
اختار جلالة الملك الذكرى التاسعة والأربعين لحدث المسيرة الخضراء المظفرة ، لكي يبسط جلالته أمام العالم أجمع مكتسبات النصر المغربي الكبير ، ولكي يؤكد جلالته أن احترام هذا البلد الشريف للقوانين والأعراف الدولية ، لا يعني التنازل عن مكتسب واحد من مكتسباته ، ولا يعني التفريط في ثابت واحد من ثوابته .
نعم ، لسنا دولة مارقة ، مثل الآخر ، ولا نحن حادثون أو طارئون ، أو خارجون من جبة استفتاء استعماري إلى حيز الوجود بداية الستينيات من القرن الماضي ، ولكننا حين الحزم في شؤون وطننا وقضاياه ، نستطيع أن نمر إلى كل سرعة قصوى يتصورها أي كان .
وقديما قالها من يعرفون المغرب والمغاربة جيدا وصادقوا عليها أيما تصديق : لا تحاولوا أبدا أن تجربوا أو تختبروا غضب هذا الحليم المغربي ، لأن ما سترونه منه لن يسركم نهائيا .
هذه انتهينا منها ، وقال لنا العالم كله ” نعم ، حان فعلا وقت الانتهاء ، والمرور إلى العمل الفعلي على أرض الواقع ، وتمكين إفريقيا كلها من المرور إلى كل الخير والتقدم بفضل التعاون المغربي الصادق ، غير المتعالي ، ولا المتعامل مع القارة باحتقار ، بل المنتمي لها ، المصرح في كل مكان وكل زمان أنها بيتنا الأول ، ومنها خرجنا وإليها سنعود دائما وفيها سنبقى ” .
بمثل هذه المرامي ، يكون الخطاب بالخصوص درسا في الواقعية السياسية ، حين يدعو جلالته المناوئين لوحدتنا من شتى الأصناف إلى الانتباه إلى ما يعتمل في الصحراء المغربية من نهضة ، وما تنعم به من أمن واستقرار ، وما يعبر عنه أبناؤها من تعلق بمغربيتهم وثوابتهم ، مفندا بالتالي تهافت وافتئات كل جهة مناوئة على حدة ، ليمدنا في نفس الوقت بالعناصر الأساسية للمرافعة عن صحرائنا في مرحلة التغيير التي تحدث عنها خلال خطابه في افتتاح السنة التشريعية .
حمل الخطاب الملكي رسائل قوية تتعلق بملف الصحراء المغربية وتشبث أبناء المناطق الجنوبية بمغربيتهم ، وروابط البيعة عبر التاريخ ، بين سكان الصحراء وملوك المغرب ، وسط تزايد الاعتراف الدولي بالحكم الذاتي كحل وحيد للقضية خارج الأوهام والأطروحات التي تجاوزها الزمن ، فضلا عن ضرورة اليقظة في ترسيخ المكاسب ومواصلة التنمية بالمناطق الجنوبية بالروح نفسها التي يجب العمل بها أيضا لتحقيق التقدم والتنمية ، من الريف إلى الصحراء ، ومن الشرق الى المحيط ، مرورا بمناطق الجبال والسهول والواحات .
هناك نبرة ثقة بالنفس في الخطاب ومخايل نصر مؤزر بين سطوره ، واعتداد ملكي واضح بما تحقق من اختراقات ، ومن إنجازات عظيمة للديبلوماسية المغربية ، وترتيب وتوقيت ذكي للمبادرات والاقتراحات ، ورسائل تذكر الشعوب المغاربية بأن المغرب لا يمانع في كل ما فيه خير لها ، وفيه على الخصوص فرصة أخرى للنظام الجزائري كي يتدارك موقفه في الوقت الميت من الصراع ، ولا يستمر في تصدير أزماته الداخلية بافتعال قضايا وهمية حتى لا يكون آخر من يعترف بالحق المغربي المشروع .
ففي ظل التطورات والانتصارات الديبلوماسية في قضية الصحراء المغربية ، يرفض المغرب استغلال قضيته الأولى لتغطية دول على مشاكلها الداخلية ، كما يرفض الانحراف بالجوانب القانونية ، لخدمة أهداف سياسية ضيقة ، مع اعتزازه بالشراكات والالتزامات القانونية ، التي لن تكون أبدا على حساب الوحدة الترابية والسيادة الوطنية .
إن الصحراء المغربية ليست ولن تكون مشجبا لتعليق المشاكل الداخلية الكثيرة لهذا العالم المتجمد ، كما لن تكون مطية لتمرير مغالطات قانونية ، لأهداف سياسية لم تعد خافية على أحد .
أما من يريد التعاون والشراكة وتحقيق الرفاه والتقدم المشترك لشعوب المنطقة ، فيمكنه أن ينضم إلى مبادرة ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي ، دون حاجة إلى لف ودوران .
ويؤشر هذا المنسوب الكبير من الوضوح على دخول المنطقة عهدا جديدا ومنعطفا تاريخيا ، وسياقات دولية جديدة تفرض إعادة ترتيب الأوراق ، وسيكون فيها دور محوري للأمم المتحدة في اتجاه إقامة الفرق المطلوب بين الحقيقة المغربية ، وبين الوهم ودعوات الانفصال والجمود .
ولعل أهم خطوة في هذه المرحلة ، هي التطبيق السليم لقرارات مجلس الأمن منذ 2017 التي أبعدت كل ما له علاقة بمقترح الاستفتاء ، وحددت الأطراف الأساسية في النزاع ، ضمنها الجزائر ، ودعتها إلى استئناف جولات الموائد المستديرة ، وصولا إلى حل سياسي على قاعدة المقترح المغربي بتمتيع سكان الأقاليم الجنوبية بحكم ذاتي تحت السيادة المغربية.
إن عودة الجزائر إلى مكانها في الموائد المستديرة ، وصولا إلى حل سياسي على قاعدة المقترح المغربي بتمتيع سكان الأقاليم الجنوبية بحكم ذاتي تحت السيادة المغربية .
إن عودة الجزائر إلى مكانها في الموائد المستديرة ، وإذعانها إلى المنتظم العالمي الذي يعتبرها طرفا في النزاع المفتعل ، سيعطيان مشروعية لقرارات هذا المنتظم ، كما من شأن ذلك أن يساهم في وضع نقطة نهاية لمسار طويل من العبث والتحايل والتلاعب بمؤسسات الأمم المتحدة ، من قبل شرذمة ، تريد فرض الأمر الواقع على الجميع .
لقد قالها جلالة الملك ، ونعيدها معه ” لقد حان الوقت أن تتحمل الأمم المتحدة مسؤوليتها ” في هذا الملف ، في أفق حسمه النهائي ، اليوم قبل الغد .
وفي الخطاب التفاتة ملكية سامية إلى مغاربة العالم ، وتذكير لنا جميعا بأفضال هؤلاء الذين غادروا المغرب ولم يغادرهم هو ، وبقي في المسام منهم ، لا ينبض عرق واحد دواخلهم إلا باسمه .
إعادة هيكلة مجلس الجالية المغربية في الخارج ، واحداث المؤسسة المؤسسة المحمدية للمغاربة المقيمين بالخارج ، دلالة اقتناع البلد بأن الأجيال الجديدة من المهاجرين تستحق تعاملا جديدا ، يستجيب لمطالبها وتطلعاتها ، ويرفع عنها كل الذي كانت تشتكي منه في السابق ، وييسر عليها سبل العيش هنا وهناك ، وطرق الاستثمار ومسالكه ، ويقلل من أثر الغربة الدائمة عليها بأن يذكرها أن لديها بلدا هو الأصل لن ينساها على الإطلاق.
هذه رسالة بليغة أخرى تظهر في بنية هذا الخطاب ، حيث أفرج جلالته عن هندسة مؤسساتية جديدة ينتظر منها أن تدفع بجاليتنا بالخارج إلى المساهمة في بناء الوطن والدفاع عنه في المحافل الدولية وتعبئتها بشكل فعال للاستثمار في وطنها …وبالتالي قد وجه الحكومة إلى أن تجعل من المغرب بلدا جاذبا لأبنائه من الأدمغة والكفاءات والمستثمرين في الخارج ، من خلال نجاعة التدبير لشؤونهم ومقترحاتهم وتنفيذها ، داعيا إلى الخروج من مرحلة تشتت الفاعلين وتداخل اختصاصاتهم ، فإذا كانت الهجرة قد أبعدت مغتربينا عن وطنهم ، فالعولمة والوطنية التي تحركهم كفيلتان بأن تعيداهم لنا من جديد . ذلك أن الوطن لا تكتمل قوته إلا بجميع أجزائه وإلا بجميع أفراده .
ويمكنكم أن تتخيلوا حجم فرح أبناء الجالية المغربية في كل أنحاء العالم ، وجلالة الملك يزف لهم الخبر الجميل في نفس يوم احتفالهم بذكرى المسيرة الخضراء ، وكيف رنت في أعماقهم البديهية والمسلمة التي تقول إن مسيرة 1975 مستمرة فينا لا تتوقف ، حررت الأرض والرمال الغالية ، وواصلت الدفاع عن الثوابت بحزم وقوة ، إلى أن اقنعت العالم كله بعدالة قضيتنا ، وهي اليوم بعد الانتهاء من الموضوع ، ودعوة المنتظم الدولي لتحمل مسؤوليته الكامل لإقفال صفحة هذا النزاع المفتعل ، والانتصار للشرعية الدولية والحق المغربي الثابت ، تولي الوجه صوب أبناء البلد ، داخل وخارج أرض الوطن من أجل مزيد من الإصلاح والإهتمام بهدف المزيد من التقدم والرقي والازدهار .
قلناها منذ القديم ، ونعيد قولها بكل الإيمان المغربي الراسخ ، الذي لا يتزحزح ، ولا تحركه كل مرة ريح جديدة ، مهما بلغت قوتها : قافلة المغرب تسير ، ولن تتوقف عن المسير .