اللغة والهوية: هل تُقاس الانتماءات بالأرقام؟
*اللغة والهوية: هل تُقاس الانتماءات بالأرقام؟*
فيصل مرجاني
الإحصاء ليس مجرد وسيلة تقنية لقياس عدد السكان أو توزيع اللغات، بل هو انعكاس لخطابات وسرديات تساهم في تشكيل الواقع المجتمعي، بل وإعادة إنتاجه وفقًا لرؤية أيديولوجية معينة.
عندما نتحدث عن الإحصاء الأخير في المغرب، الذي أظهر انخفاضًا كبيرًا في نسبة الناطقين باللغة الأمازيغية، فإننا لا نتعامل فقط مع أرقام جافة أو معطيات محايدة، بل مع عملية معقدة تتشابك فيها الأبعاد الفلسفية، السوسيولوجية، والأنثروبولوجية، بل وحتى السيكولوجية. الأرقام هنا ليست مجرد حقيقة، بل هي تمثيل لرؤية معينة للهوية الوطنية، رؤية تتداخل فيها السياسات العامة مع التحولات الاجتماعية والثقافية.
لنبدأ أولاً بتفكيك الإطار المفاهيمي للإحصاء نفسه. الإحصاء، كأداة للقياس، ليس محايدًا؛ فهو مشروط بالمحددات التي يضعها القائمون عليه.
عندما يتم تحديد الهوية الأمازيغية بناءً على عدد الناطقين باللغة، فإن هذا يعني أن مفهوم الهوية قد تم اختزاله في اللغة وحدها.
لكن هذا الاختزال يثير إشكالات كبرى، لأنه يتجاهل الطبيعة المركبة والمتعددة الأبعاد للهوية، سواء من منظور فلسفي أو أنثروبولوجي.
الهوية ليست لغة فقط؛ إنها تفاعل بين العرق، الثقافة، التاريخ، التقاليد، وحتى الجغرافيا.
إذا أخذنا منظورًا فلسفيًا، نجد أن الهوية تُفهم كعملية ديناميكية وليست كيانًا ثابتًا.
بول ريكور، أحد أبرز الفلاسفة الذين تناولوا مفهوم الهوية، يصفها بأنها حوار مستمر بين الذات والآخر، وبين الماضي والمستقبل.
في هذا السياق، الهوية الأمازيغية ليست مجرد عدد الناطقين باللغة، بل هي مشروع حضاري يعيد تشكيل نفسه باستمرار. اللغة، في هذا الإطار، ليست سوى أحد تجليات الهوية، وليست جوهرها الوحيد.
على المستوى السوسيولوجي، لا يمكن فهم نتائج الإحصاء الأخير دون النظر إلى السياسات العامة التي شكلت الواقع الثقافي واللغوي في المغرب منذ الاستقلال. الدولة المغربية تبنت مشروعًا تعريبيًا استهدف توحيد الهوية الوطنية تحت مظلة اللغة العربية والدين الإسلامي.
هذا المشروع، الذي كان يهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية، أدى في الواقع إلى تهميش الأمازيغية وإقصائها من التعليم، الإعلام، والمجال العام. هذه السياسات، التي استمرت لعقود، لم تؤثر فقط على اللغة الأمازيغية، بل على المكانة الاجتماعية والثقافية للأمازيغ بشكل عام.
لكن التحولات الاجتماعية والاقتصادية لعبت دورًا إضافيًا في تشكيل الواقع الحالي.
المغرب شهد تحضرًا سريعًا وهجرة داخلية نحو المدن الكبرى، حيث الهيمنة اللغوية للعربية والفرنسية جعلت استخدام الأمازيغية يتراجع في الحياة اليومية. هذه الديناميات ليست تعبيرًا عن رفض للهوية الأمازيغية، بل هي انعكاس للضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت المجتمعات الأمازيغية إلى التكيف مع واقع جديد يفرض أولويات مختلفة.
رغم ذلك، فإن التركيز على اللغة كمعيار وحيد للهوية يعكس اختزالاً خطيرًا. الهوية الأمازيغية ليست فقط لغة تُنطق، بل هي تاريخ ممتد وجذور ثقافية عميقة. هذا يقودنا إلى السؤال حول العلاقة بين اللغة والهوية: هل يمكن أن تُعرّف الهوية بناءً على اللغة فقط؟ أم أن اللغة مجرد وسيلة تعبير ضمن سياق أوسع يشمل العادات، التقاليد، الموروثات الثقافية، وحتى الجينات؟
من منظور أنثروبولوجي، الهوية هي بناء اجتماعي يعكس تفاعلات معقدة بين الفرد والجماعة، وبين الماضي والحاضر. الأمازيغية ليست مجرد لغة، بل هي تجربة حضارية تمتد لآلاف السنين.
إنها تتجلى في الأزياء التقليدية، الأغاني الشعبية، العمارة والهندسة، والممارسات اليومية التي تعكس نمط حياة متجذر في التاريخ والجغرافيا. اختزال هذه الهوية في عدد الناطقين باللغة هو تقليل من قيمتها الحقيقية، لأنه يتجاهل هذه الأبعاد الأخرى التي تُشكّل جوهر الانتماء الأمازيغي.
الجينات تقدم بُعدًا علميًا يُظهر أن الأمازيغية ليست مجرد ظاهرة لغوية، بل هي امتداد بيولوجي وعرقي. الدراسات الجينية تؤكد أن الغالبية العظمى من المغاربة يحملون أصولًا أمازيغية، حتى لو لم يكونوا ناطقين باللغة. هذا المعطى يُظهر أن الهوية الأمازيغية ليست مسألة اختيار ثقافي فحسب، بل هي جزء من التكوين البيولوجي لسكان المغرب. الجينات تحمل تاريخًا مشتركًا يعكس الارتباط العميق بين الأمازيغ والأرض التي عاشوا عليها منذ آلاف السنين.
لكن التركيز على الجينات وحدها لا يكفي لفهم الهوية.
الهوية، في نهاية المطاف، هي تجربة إنسانية تتجاوز البُعد البيولوجي.
إنها مشروع ثقافي يُعاد بناؤه باستمرار من خلال التفاعل مع الزمن والظروف المحيطة.
في هذا السياق، الهوية الأمازيغية ليست كيانًا مغلقًا أو ثابتًا، بل هي عملية تتجدد عبر الأجيال.
اللغة قد تتراجع أو تتغير، لكن العناصر الأخرى من التراث الثقافي، مثل الموسيقى والأزياء والعادات، تبقى شاهدة على استمرارية هذه الهوية.
الإحصاء، إذًا، ليس مجرد أداة قياس، بل هو أداة سردية تُعيد إنتاج تصور معين عن الهوية الوطنية. عندما تُعلن أرقام تُظهر انخفاض نسبة الناطقين بالأمازيغية، فهي لا تعكس الواقع فقط، بل تُساهم في تشكيله.
هذه الأرقام قد تُستخدم لتبرير سياسات معينة، مثل تقليص الاهتمام بالأمازيغية في التعليم أو الإعلام، مما يعزز المزيد من التهميش لهذه الهوية او العكس.
إذا أردنا التعامل بجدية مع الهوية الأمازيغية، فعلينا تجاوز الاختزالات البسيطة التي تقدمها الإحصاءات. الهوية الأمازيغية لا يمكن أن تُقاس بعدد الناطقين باللغة فقط.
إنها بناء متعدد الأبعاد يشمل التاريخ، الثقافة، الجينات، العادات، وحتى الروح الجماعية التي تُعيد تشكيل نفسها باستمرار. هذه الرؤية تتطلب سياسات تعترف بالتنوع الثقافي كمصدر قوة، لا كتهديد للوحدة الوطنية.
في النهاية، الهوية الأمازيغية ليست حقيقة تُكتشف، بل هي مشروع يُصنع. هذا المشروع يجب أن يكون شاملاً، يتجاوز اللغة ليشمل كل أبعاد الثقافة والحضارة.
الأمازيغية ليست مجرد لغة تنطق، بل هي روح تعيش في تفاصيل الحياة اليومية، في الحكايات الشعبية، في الأزياء التقليدية، وفي العلاقة العميقة بين الإنسان والأرض.
الإحصاء قد يقيس الكلمات التي ننطقها، لكنه لن يستطيع قياس ما تحمله الروح من انتماء وذاكرة وحلم. الهوية، في جوهرها، هي تجربة إنسانية تتجاوز كل الأرقام والمعايير.
*فيصل مرجاني*