الخيانة الحقيقية!
في مشهد سياسي حافل بالمزايدات والتوترات غير المجدية التي تحط من قيمة العمل السياسي النبيل، وفي سابقة لم تشهد المؤسسة التشريعية مثيلا لها في تاريخ المغرب المعاصر، تفجر فجأة جدل واسع داخل البرلمان وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، إثر وصف رشيد الطالبي العلمي رئيس مجلس النواب والقيادي بحزب “التجمع الوطني للأحرار”، انسحاب أعضاء فريق نقابة “الاتحاد المغربي للشغل” من الجلسة العامة التي انعقدت بمجلس المستشارين يوم الاثنين 3 فبراير 2025 إبان التصويت على مشروع القانون رقم: 97-15 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، ب”خيانة السيادة الوطنية”.
وهي التصريحات التي أدت إلى إشعال فتيل الغضب ليس فقط بين الفاعلين السياسيين والنقابيين، بل حتى في أوساط المتابعين للشأن العام والكثير من المواطنات والمواطنين.
إذ كيف يسمح رئيس مجلس النواب لنفسه بإطلاق الكلام على عواهنه لمجرد أن فريقا برلمانيا يختلف في الرأي مع الحكومة، في الوقت الذي كان يفترض فيه أن يمسك العصا من الوسط ويكون نموذجا في الرصانة والقول السديد؟ حيث قال منتشيا بما تحقق للحكومة من نصر بعد التصويت بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي للإضراب، مساء يوم الثلاثاء 4 فبراير 2025 أمام لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب خلال الاجتماع المخصص للتصويت على ذات المشروع في إطار القراءة الثانية “إن النواب البرلمانيين يمثلون الأمة، ويمثلون السيادة الوطنية داخل المؤسسة التشريعية، وبالتالي فإن الانسحاب من التصويت على مشروع قانون هو بمثابة خيانة للأمة والوطن والسيادة الوطنية”
فرئيس مجلس النواب الذي مازالت عاصفة الانتقادات الحادة لم تهدأ بعد بخصوص إقدامه على إحالة نائبة برلمانية من أحزاب المعارضة على لجنة الأخلاقيات بمجلس النواب، لا لشيء سوى أنها انتقدت بشدة في أواخر يناير 2025 الوضعية المزرية للنقل الحضري بمدينة فاس خلال جلسة الأسئلة الشهرية الموجهة لرئيس الحكومة عزيز أخنوش، نسي أو تناسى أن فريق حزبه النيابي سبق له ليس فقط الانسحاب من مجلس النواب عام 2012، احتجاجا على اتهام أحد نواب الأمة رئيس الحزب آنذاك صلاح الدين مزوار بالفساد، بل قام كذلك بتجميد نشاطه البرلماني قبل أن يعود لاستئنافه فيما بعد، دون أن يصفه أحد حينها لا بالخيانة ولا هم يحزنون، مادام أن الانسحاب من مؤسسة البرلمان وغيرها لا يعدو أن يكون رد فعل سياسي، ظلت تمارسه النخب السياسية بأريحية منذ عقود، ولعل أشهر الانسحابات السياسية في تاريخ المغرب، هو ذلك الذي قام به حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، احتجاجا على قرار الملك الراحل الحسن الثاني القاضي بتمديد عمر الولاية التشريعية لمجلس النواب إلى ست سنوات بدل أربع سنوات فقط.
ثم كيف له أن يصف المنسحبين من جلسة التصويت بالخونة ويتجاهل الغائبين عن جلسة التصويت بمجلس النواب على مشروع قانون ذي أهمية بالغة مع ما له من تداعيات على أحد أهم الحقوق الأساسية للشغيلة المغربية، ولاسيما أن عددهم يصل إلى 291 برلمانيا وبرلمانية؟
لأجل ذلك لم يتأخر فريق الاتحاد المغربي للشغل بمجلس المستشارين في إصدار بلاغ شديد اللهجة، للتعبير عن استهجانه الشديد وامتعاضه الكبير من التصريحات غير المسؤولة لرئيس مجلس النواب، في تعليقه على انسحابه من الجلسة العامة للتصويت على مشروع قانون الإضراب المثير للجدل، معتبرا أنه قانون تكبيلي، يجرم الحق في ممارسة الإضراب بدل تنظيمه، وأن الانحياز لمطالب الطبقة العاملة المغربية وحماية الاختيار الديمقراطي من أي موقع، لا يمكن وصفه بالخيانة للسيادة الوطنية. ويضيف البلاغ بأنه يفترض في رئيس مؤسسة تشريعية التحلي بقدر من المسؤولية والإلمام بكل المفاهيم وبنود الدستور المغربي قبل النطق بما يسيء إلى صورة ومصداقية المؤسسة التشريعية، ويطالب باعتذار رسمي علني.
ففي رأينا المتواضع نرى أنه من غير المقبول سياسيا وأخلاقيا قياس الخيانة الوطنية بانسحاب مستشار برلماني أو فريق نيابي من المؤسسة التشريعية لحظة التصويت على مشروع قانون ما، وإنما هي قيام بعض المنتخبين ممن أسندت إليهم مسؤولية تدبير الشأن العام، بحرمان خزينة الدولة من مداخيل هامة، سواء عبر التهرب الضريبي، أو حرمان المستخدمين العاملين في شركاتهم ومكاتبهم وبيوتهم من حقوقهم وعدم التصريح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أو التصرف في أموال دافعي الضرائب كإرث خاص لتنمية أرصدتهم البنكية وقضاء مصالحهم الذاتية والعائلية والحزبية الضيقة، عوض إنفاقه في تنمية البلاد والعباد.
فما معنى أن يخصص مثلا دعم للمستثمرين من كبار الفلاحين وغيرهم بدعوى التأمين الغذائي وتحقيق الاكتفاء الذاتي، في وقت يستمر فيه اكتواء الطبقات الفقيرة والمتوسطة بلهيب الغلاء، حيث ما انفكت الأسعار تشهد ارتفاعا قياسيا غير مسبوق في جميع المواد الأساسية والغذائية، ولاسيما اللحوم الحمراء التي لم تعد تعرف طريقها إلى مطابخ آلاف الأسر المغربية؟
إن خيانة الوطن والمواطنين والسيادة الوطنية ذات وجوه متعددة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، إخلال المنتخبين بوعودهم الانتخابية وعدم الالتزام بحضور الجلسات العامة في البرلمان، تقصير الموظفين والمسؤولين في الاضطلاع بمهامهم وأداء واجبهم المهني على الوجه المطلوب، وهي أيضا التلاعب بالصفقات العمومية، ممارسة الفساد والغش في المعاملات، اختلاس وتبديد المال العام دون وجه حق، وغير ذلك كثير… فليكف بعض “المحظوظين” ممن لا يجدون أنفسهم إلا في تحمل مسؤوليات تتجاوز قدراتهم، عن ترهاتهم التي لن تزيد الأمور إلا تأزما.
اسماعيل الحلوتي