تبون بين الجرأة والوقاحة!
من الأمور التي لا يختلف حولها حتى الأشخاص من خارج حقل السياسة، أنه لا يمكن لأي كان تولي منصب رئاسة دولة دون أن يختاره الشعب بشكل ديمقراطي في انتخابات حرة ونزيهة، على أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط والمعايير، منها أن يكون حاملا لبرنامج انتخابي واضح المعالم وقابل للتطبيق، قادرا على تحمل المسؤولية وإدارة البلاد بكفاءة عالية، متحليا بقيم الصدق والأمانة والاستقامة، حرا في قراراته، رصينا في خطابه وحريصا على مراعاة حقوق المواطنين، فضلا عن تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية وضمان العيش الكريم للجميع على قدم المساواة ودون تمييز.
فهل يتوفر “تبون” على ما يؤهله لرئاسة بلد بحجم الجزائر؟ انطلاقا مما تراكم لديهم من ملاحظات، يجمع عديد المراقبين والخبراء في العالم على أن الرجل ليس سوى واجهة مدنية للنظام العسكري الجزائري، الذي استقدمه خصيصا عبر انتخابات شكلية ومحسومة قصد تنفيذ برنامج عسكري صرف. وإلا كيف يقبل كل ذي عقل سليم فوزه بولاية ثانية بأكثر من 94 في المائة من الأصوات المعبر عنها في انتخابات رئاسية مبكرة، جرت يوم 7 شتنبر 2024 في ظل عزوف شعبي كبير عن المشاركة، لانعدام الثقة في النظام العسكري الجاثم على الصدور منذ 1962، وأمام سخط المواطنين العارم على تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتفشي الفساد وغيره كثير؟
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الخرجات الإعلامية للرئيس الجزائري الصوري “تبون”، إما أنها تكون مستفزة لمشاعر المواطنات والمواطنين الجزائريين والمغاربة، وإما أنها تتحول إلى مادة دسمة للسخرية على منصات التواصل الاجتماعي، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة لا يسمح المجال بالعودة إليها هنا. إذ طالما شكك الكثيرون في سلامته العقلية، ولجأ عدد من رواد الفضاء الأزرق إلى تداول مقاطع فيديو على نطاق واسع ترصد أشياء مثيرة للاستغراب مثل حديثه في العيد الأممي للعمال (ماي 2024) عن الحجرة التي يحملها في يده لضرب الخارجين عن الصف، وكذا عن الأرقام الفلكية بشأن تحلية مياه البحر، وربط تحرك جيش بلاده إلى غزة بفتح مصر لحدودها مع القطاع، لبناء ثلاثة مستشفيات في عشرين يوما فقط، ومواقف أخرى أكثر إثارة للضحك بما فيها ما حدث عشية يوم الثلاثاء 17 شتنبر 2024 خلال حفل أداء اليمين الدستورية، إن على مستوى الأخطاء اللغوية أو المشاهد المثيرة للسخرية.
فالرئيس “تبون” يخلط للأسف بين الجرأة والوقاحة في تصريحاته وخطبه، مما يجعله عرضة للتهكم والانتقادات اللاذعة، ناسيا أن الجرأة تعتمد لغة راقية وأسلوبا محترما سواء في الخطب الموجهة إلى الشعب أو في الملتقيات الدولية أو خلال التصريحات الإعلامية. وهي أيضا القدرة على التعبير عن الرأي بحرية دون إيذاء مشاعر الآخرين والإساءة إلى أي جهة، شخصا كان أم جماعة أم دولة، فيما الوقاحة تعني قلة الحياء والإتيان بالأفعال القبيحة دون احترام المعايير الاجتماعية. والإنسان الوقح هو من يتعمد استعمال أساليب جارحة وألفاظ سيئة، لاستفزاز مشاعر الآخرين كيفما كانت طبيعتهم، وقد تصل الوقاحة إلى جريمة أخلاقية في حق كل من يخالفونه الرأي، سواء تعلق الأمر بأشخاص ذاتيين أو أنظمة سياسية.
لذلك علينا ألا نستغرب مما جاء به من وقاحة في خطابه أمام البرلمان يوم الأحد 29 دجنبر 2024 الذي لا يليق برئيس دولة يحترم نفسه، حيث أنه تجاوز كل حدود اللباقة والدبلوماسية، وأبى إلا أن يتجاهل فيه أهم القضايا التي تشغل بال الجزائريين، ويستغله فقط في التحرش بالمغرب والمس بوحدته الترابية، حينما كشف عن تشبث بلاده بالدعم المستمر لميليشيات البوليساريو الانفصالية، مؤكدا أنها ستستمر على نفس الموقف، بدعوى أن مشكل الصحراء “قضية حق شعب في تقرير مصيره”، بل كذلك في مهاجمة فرنسا والكاتب الجزائري/الفرنسي بوعلام صنصال البالغ من العمر حوالي 80 سنة، الذي سبق للسلطات الجزائرية أن أوقفته في 16 نونبر 2024 فور وصوله إلى مطار “هواري بومدين”، على خلفية مقابلة سابقة أجراها مع أحد المنابر الإعلامية الفرنسية، قال فيها بأن “مدنا جزائرية مثل تلمسان ووهران كانت في الأصل مدنا مغربية وتم ضمها للجزائر من قبل الاستعمار الفرنسي” نسبت إليه بسببها جملة من التهم يتعلق بعضها بجناية التخابر مع جهات أجنبية، إذ وصفه تبون في خطابه الأرعن باللص المجهول الهوية والأب الذي يسعى إلى تشكيك الجزائريين في الوحدة الترابية لوطنهم، حيث قال: “تجي انت تبعث لي لص مجهول الأب الهوية يقول الجزائر كانت نصها تاع دولة فلانية”
إن ما يبعث على الشفقة ليس فقط أن يظل الشعب الجزائري المغلوب على أمره، يعاني من الظلم والقهر والتجويع وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات، غير قادر على الانفلات من القبضة الحديدية لعساكر الجزائر والتحرر من قيود الذل والهوان، أولئك العجزة الذين ما فتئوا يتحكمون في رقاب المواطنين ويكتمون أنفاسهم على مدى أزيد من سبعة عقود، ويختارون لهم رؤساء على المقاس يأتمرون بأوامرهم، بل كذلك في استنزاف عائدات الموارد الطبيعية وخاصة النفط والغاز، وإنفاق الجزء الأوفر منها في التسلح ومعاكسة المغرب في وحدته الترابية، لفائدة كيان وهمي لن يصبح أبدا حقيقة على أرض الواقع.
اسماعيل الحلوتي