المريزق: ما يعيشه المغرب الآن من رجات ومن ديناميات اجتماعية في القرى والبوادي والمدن الصغرى والمتوسطة، إنما هو نهاية مرتقبة لدور الوسائط التقليدية، السياسية والمدنية والنقابية، ونهاية للأعيان ول”العائلات الكبيرة”
نهاية المغرب
المريزق المصطفى
في مرحلة الانتقال النوعي للمجتمعات، تنهض الممارسات الثقافية والمعرفية والأدبية بمهمات ومسؤوليات وطنية تتكافأ ونمو وتطور سيرورة منسجمة تتساوى فيها خطوات السير بين المكونات كلها (الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والتعليمية). كما وأنها تلعب دورا محوريا ورائدا في عملية خلق الإنسان الجديد، والحال أنّ الأمر يتعلق في المغرب بمستويات متفاوتة، لا تسير باتجاه التقدم وتجاوز الموروث المتخلف والتناقضات التي أفرزتها الأزمنة السابقة. فلا السياسي متقدم على الاقتصادي، ولا البنية الفكرية أسرع من البنية السياسية والاقتصادية، ولا الاثنين معا.
فهل آن الأوان لوقفة مراجعة بمنظار طموح مغرب المستقبل؟ أم أن الطبيعية الأساسية لبنية المجتمع المغربي ترفض إشاعة مبدأ التغيير وتتعايش مع معوقات التطور؟
لن نحتاج للمغامرة، إذا ما أردنا نقل معطيات ومؤشرات تثبت ضعف وسوء تماسك المجتمع المغربي. كما لا نحتاج للدليل والبرهان لفضح التقهقر إلى المراحل السابقة، وان التغني بمقولة العهد الجديد خدعة تم استعمالها لاستغلال البيعة لأهداف ضيقة، مصلحية، محافظة ومتزمة، من طرف من سماهم الملك في خطابه الشهير ب” شر الدواب” بعد غضبة عيد العرش.
وحتى لا نصاب بمرض فقدان الذاكرة التاريخية، يبدو أن خدمة الشعب والوطن بالمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية، بات من المستحيل، وأن نهاية المغرب القديم قد أوشكت ولم يعد أمامها سوى رجات اجتماعية عنيفة في الهامش والمركز، لتفتح آفاق المستقبل لمغرب آخر، يمشي على عجلات فكرية وثقافية ومعرفية، تعبر عن حالة التحولات المجتمعية، تسائل مبدأ التعاقد الاجتماعي وموجهاته، تقيم النمط الليبرالي المغرب المشوه، وتحاكم القالب السياسي الاستبدادي والرجعي الذي توافق معه الجميع كل من موقعه، وتحافظ على وحدة البلاد ومؤسساتها، وعلى الأمن والأمان.
لقد زهقت روح المغرب، حينما لجأت مؤسسات الدولة للانفصال عن مجالات البحث في العلوم السياسية والاجتماعية والتاريخية والاقتصادية، واكتفت بالانتشاء بمصانع الأعيان كصمام أمان للإيديولوجية الليبرالية المتوحشة، وشرعنة اقتصاد الريع والفساد السياسي والإداري.
طبعا، قليلة هي التجارب الناجحة التي نهجت الديمقراطية الليبرالية، باعتمادها على الدولة وسلطة القانون والمسؤولية الحكومية. غير أنّ النموذج المغربي ظل بعيدا وغير خاضعا لهذا الثلاثي، وأعلنت أعلى سلطة في البلاد عن نهاية نموذجها التنموي، ونهاية مرحلة تاريخية بكاملها من مراحل الولاء للعشيرة والقبيلة.
إن ما يعيشه المغرب الآن من رجات ومن ديناميات اجتماعية في القرى والبوادي والمدن الصغرى والمتوسطة، إنما هو نهاية مرتقبة لدور الوسائط التقليدية، السياسية والمدنية والنقابية، ونهاية للأعيان ول”العائلات الكبيرة” في هذه المناطق، وبداية مرحلة الولاء للدولة الاجتماعية، التي ستجعل من مراقبة ومحاسبة للحكومة من قبل الشعب، خطوة ثورية لتربعها.
إن الواقع يؤكد أن مغرب الأمس قد انتهى، وتشمل نهايته مختلف مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة، وأي محاولة للحفاظ على الوضع سيكون مصيرها الفشل بسبب الطوق الذي تضربه حولها، فهي لا تملك القوة للإفلات من قبضتها.
وإذا كان المغرب مهد الحضارة، وذات قيمة تاريخية ودلالات إنسانية معينة، فالمغاربة لهم القدرة على تخطي الحدود بين ماضي الشيخ والمريد وحاضر الإنسان المغربي كثقافة متعددة وكمصير إنساني، متجدد ومتطور، أرهقه تاريخ الاستعمار والتخلف والاستبداد والاستبعاد والاستغلال والتجزئة.
إن نهاية المغرب القديم، ستكون على يد الثورة الإعلامية والتكنولوجية وغزارة معلومة القرب، وهو ما سيساعد الجيل الجديد من النساء والشباب على ميلاد المغربي النوعي وجعل ما ضاع من المغاربة أطلالا. فالشباب والنساء لهم القدرة اليوم على توحيد كل فئات المجتمع، مهما اختلفت انتماءاتهم وثقافاتهم ولغاتهم، إنهم خزان مشترك للعائلة وللجميع، بما في ذلك من لا يزال يعبد السلطة القديمة. لأن الحرية هي شيء مقدس لدى الشباب، وخاصة في زمن الرجوع إلى ثقافات الهامش العابرة للعلوم والمعرفة، والتواقة للعدالة وللحق في التكوين والتعليم.
إن مغرب المستقبل يقترب اليوم من بنائه، مستحضرا قضية المساواة والنوع والهوية المتعددة، من منطلق الانتصار للقيم الجديدة التي هي قيم القانون وحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، ضد سلطة الريع والزبونية والليبيرالية المتوحشة، التي لم تستطع الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والمدنية الوقوف ضدها، حتى أصبحت متجاوزة على أكثر من صعيد، وخطيرة على مؤسسات الدولة التي أفرغت من محتواها القانوني حتى أصبحت مؤسسات بلا روح.
لقد قطع مغرب اليوم شوطا مريرا مع وقفته التاريخية والتأملية، وكانت الذكرى الخمسينية، محطة لاستخلاص الدروس والعبر، والمنعطفات الكبرى التي ميزت المغرب طوال هذه المرحلة، والذي عبر عنها بكل صراحة الخطاب الملكي ل 20 غشت 2003، والذي دعا فيه ملك البلاد إلى بلورة رؤية مستقبلية واعدة وذات قدرة تعبوية حول آفاق التنمية البشرية بالمغرب. وبعد كل ذلك الجهد، يعود الملك في محطة هذه السنة، ليكشف عن المستور، ويعترف بنهاية النموذج التنموي، أمام هول الحصيلة المركبة من الأمية والفقر والتخلف وسوء توزيع الثروة والسلط واللاعدالة في المجال وغياب الحقوق الأساسية، وسرق الخيرات، وهدر طاقات الشباب المعطل، وإثقال كاهل الدولة بالمديونية وجعل البلاد والعباد على حافة الإفلاس.
ورغم قوة الاعتراف الرسمي للملك، لم تشهد البلاد أي حوار مجتمعي حول ما جاء في خطابه الأخير بمناسبة افتتاح البرلمان من كلام خطير. ومن أجل ذلك، وبناء عليه، سيعرف مغرب المستقبل هزة اجتماعية، بقيادة الشباب والنساء، ستفرض على كل الفاعلين الجلوس على الأرض لصياغة أسس الاستقلال الاجتماعي، عبر ترشيد السياسات العامة للدولة، بدمقرطة المؤسسات، وربط المسؤولية بالمحاسبة، بعيدا عن المقاربات السياسية التقليدية والمحافظة، التي حكمت البلاد منذ الاستقلال.
أما إذا عاكس التاريخ نهاية المغرب، فالصدمة ستكون هذه المرة أقوى من كل الصدمات.