«الدولة الإسلامية» أم حتمية الحداثة؟
ينبني النموذج النظري لـ«الدولة الإسلامية» كما يراه وينظّر له أمحمد جبرون الباحث والجامعي المغربي في كتابه الجديد «مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة» على ثلاثة أركان هي: البيعة، العدل، المعروف، وتشكل في مجموعها والنقاش حول تطورها والأشكال التي اتخذتها العمود الفقري للكتاب. وهي، بحسب المؤلف، قلب وجوهر التسيُّس الإسلامي، ومناط أسسه وأهدافه، إذ يقول: «ومن خلال مطالعة متأنية لنص القرآن.. اهتدينا إلى جملة من المبادئ الكلية التي يرجع إليها تدين الدولة أو إسلاميتها في التجربة التاريخية الإسلامية، وهي على التوالي: البيعة، والعدل، والمعروف». وعلى رغم الأهمية البالغة التي ينسبها المؤلف لهذه الأركان الثلاثة فإنه لا يخبرنا بمنهجية الاهتداء إليها وعلى أي أسس استنباطية اختارها. بل ثمة قدر من الانتقائية الواضحة، إن لم نقل الاعتباطية في اعتمادها. لماذا، مثلا، لا تكون الأركان المؤسسة للتسيس الإسلامي هي تلك التي قال بها محمد عابد الجابري: الشورى، والتفريق بين الرسالة والسياسة، والمسؤولية العامة والفردية؟ ولماذا لا نقول إن الحرية بمفهومها الواسع والانعتاقي من السلطة والجبر هي أحد أركان وأهداف التسيس الإسلامي؟ ولماذا لا نقول أيضاً إن المساواة، وليس العدل، هي التي تستحق أن تكون واحداً من تلك الأركان. وبعيداً عن حسم الخلاف حول أي من هذه المفاهيم يستحق أن يكون ركناً من «الأركان»، فإن ما هو مهم منهجياً توضيح المبرر المنطقي والجدلي الذي يسوغ تضمين أحدها واستبعاد آخر.
واستطراداً لأولويات المفاهيم المركزية ولدفع النقاش مع المؤلف إلى مساحات إضافية، يمكن الزعم هنا بأن مفهوم المساواة، وهو المفهوم الثوري الكبير الذي حققته الحداثة السياسية، أهم بكثير من ناحية التأسيس لفكرة الدولة ودولة الحداثة عموماً، من مفهوم العدل. المساواة أهم من العدل لأن مركزية هذا الأخير والتوق إليه تحصيل حاصل رغم طوباوية تحققه التام على الأرض. فكل منظومة فكرية وفلسفية وكل تجسيد سياسي واجتماعي لتلك المنظومات يولي الاهتمام الأولي لقيمة العدل وإعلاء مكانته. بيد أن المساواة بين الأفراد بغض النظر عن العرق والدين واللون والمرتبة الاجتماعية هي التحدي الكبير الذي يواجه التنظير، والتجسيد العملي، لفكرة الدولة الحديثة. وفي قلب هذا التحدي تقع فكرة المواطنة الكاملة التي تدفع بولاءات الأفراد الفرعية إلى الهوامش وتعتبر ولاءهم للدولة وبكونهم مواطنين فيها هو الأولي والأساسي. وهنا، في قراءة وبحث المؤلف جبرون، لا نجد التقعيد المطلوب لفكرة المساواة.
وربما أمكن القول هنا إن خفوت موضوع المساواة في مقاربة الكتاب يقودنا إلى مسألة إشكالية أخرى هي الاعتماد على خصوصية الحالة المغربية التي استولت على المؤلف واعتبرها المثال التوضيحي، عبر تفكيكه وفهمه، للنموذج النظري الذي يقترحه. فمن ناحية أولية، تنحصر معالجة الكتاب في التجربة السياسية العربية -وليس الإسلامية بشمولها- قديمًا وحديثاً. وفي الإطار العربي «الحديث» تفرد مساحة موسعة لمناقشة الحالة النموذج التي تم تطبيق «النموذج النظري» عليها وهي حالة المغرب. بيد أن الحالة المغربية وتطورها وتاريخها تتسم بخصوصية قد لا تمثل أو تعكس بقية العالم العربي أو الإسلامي. فالمغرب يمتاز مثلًا بالتناغم الديني وعدم وجود مواطنين غير مسلمين بنسب مهمة، وبسيرورة تاريخية تمتد عدة قرون من حكم شبه متصل (دولة المخزن ماضياً وحاضراً)، وبسبب ذلك يبدو تطبيق النموذج النظري (البيعة، العدل، المعروف) الذي يركبه المؤلف على الحالة منطقياً. ولكن سنصطدم بمشكلات منهجية من نوع مختلف لو طبق ذلك النموذج في منطقة أخرى مختلفة عن المغرب، مثلًا في المشرق، حيث التعددية الدينية، وحيث سيرورات الحكم المناطقي تحت ظل الدولة العثمانية مختلفة عن السيرورة المغربية، وهكذا. ففي حالات كثيرة لن نجد استمرارية مباشرة أو غير مباشرة لذلك النموذج الذي لو استمر من دون انقطاع لقاد المسلمين وبلدانهم إلى حداثتهم السياسية كما تقترح المخطوطة. وهكذا فإننا لا نستطيع الخلوص إلى مبادئ نظرية تتأسس على التجربة التاريخية ويكون طموحها الإسهام في «الحداثة السياسية» من دون التعرض للسيرورات التاريخية في شكل التسيس الحديث في المجتمعات والدول المسلمة في إندونيسيا، وماليزيا، وتركيا، على سبيل المثال، واختبار النموذج النظري الذي يقترحه المؤلف.
وما لا يبدو واضحاً تماماً أيضاً، هو موضعة السياق والنص في تشكل وتطور ما يسميه «الدولة الإسلامية». ففي الوقت الذي يكرر فيه المؤلف ضرورة عدم الخضوع للسياق لتحديد هذا المفهوم عند المفكرين المعاصرين، فإنه يخضعه عملياً لفقه التاريخ (أي السياق بشكل أو بآخر)، ويؤكد على «الشرعية الأخلاقية» للتاريخ غير المتوائم مع المثال الطوباوي ويكشف عن «الإكراهات» التي مرت بها تلك الشرعية وأهمية فهم وقبول تلك الإكراهات التي شكلت الصيغة التي تبلورت إليها «الدولة الإسلامية». وكل ذلك قد يشير إلى قبول لإكراهات السياق في الماضي، ورفضها في الحاضر.