المتشردة
في أكبر مدينة اشتهرت بالقلب النابض للمغرب وعاصمته الاقتصادية، التي فضلا عن موقعها الجغرافي الاستراتيجي، وما تشكله من مركز إشعاع لأصحاب المال والأعمال واستقطاب الاستثمار في قطاعات الصناعة والسياحة والعقار…
تعد كذلك مدينة التناقضات الكبرى، من حيث اتساع دائرة الفوارق الاجتماعية وتعايش الفقراء مع الأغنياء، والجمع بين أحدث وسائل النقل “الترامواي” والفنادق الفاخرة والفيلات الفخمة والملاهي الليلية والعمارات والأبراج العالية والشوارع الراقية، وبين أحزمة البؤس ودور الصفيح وأوكار الدعارة وتفشي الجريمة وانتشار الأوساخ والعربات المجرورة. وهي أيضا قبلة النازحين من الأرياف وملاذ المنحرفين والمتسولين والمشردين…
هناك بأحد أحياء مدينة الدار البيضاء المكتظ بالبسطاء، المسمى ظلما “حي عمر بن الخطاب”، لما تعرفه ساكنته من جور وقهر وتهميش وإقصاء، وتفشي البطالة وازدهار ترويج الخمور والمخدرات وحبوب الهلوسة بشتى أصنافها.
ووسط أسرة مثخنة بالجراح، جاءت نوال إلى الوجود في عتمة ليلة باردة من فصل الخريف، لتصبح سابعة إخوتها، وتشهد على حضور ثلاثة أطفال آخرين وراءها. مما رفع العدد إلى 10 أختا وأخا، ولم يعد يفصل عن تشكيل فريق لكرة القدم سوى “لاعبا” واحدا.
كان “رحال” الأب يشتغل بحارا في واحدة من كبريات شركات الملاحة بالمغرب، التي كادت لسبب ما أن تعلن عن إفلاسها لو لم يتم إنقاذها بأموال الشعب. يخرج إلى عرض البحر على متن سفن كبيرة للتبادل التجاري، وقد تستغرق رحلته ما بين ستة شهور وسنة. يرسل للزوجة مصاريف الأبناء عبر أخيه الموظف بسلك الأمن الوطني، الذي لم يكن أمينا كما يفترض فيه أن يكون، إذ كان كلما توصل بالحوالة يسارع إلى شحن سيارته بقليل من القطاني والدقيق والسكر والزيت والشاي، ويمد زوجة أخيه بدريهمات معدودة فيما يحتفظ بحوالي نصف المبلغ، دون خشية الله ولا وخز الضمير.
ولم تكن “ميلودة” الأم تكف عن البكاء والشكوى لجاراتها مما تعانيه من مشاكل الأبناء وجبروت عمهم واستخفاف أبيهم بمسؤولياته، وما تقاسيه من محن يومية في التنظيف والطبخ… وكانت كلما داهمها المرض، تلجأ إلى التداوي بالأعشاب أو الذهاب لمستوصف الحي بدون جدوى. تقاوم بشدة وأملها كبير في أن يأتي يوم يكبر فيه الأبناء ويشتغلون، ليخلصونها من قبضة الفاقة والمرض، إلا أنها لم تكن قادرة على ضبطهم والتحكم في ممارساتهم أمام ما كانت تلاحظه عليهم من تهاون وإهمال للدروس، حيث يقضون معظم الأوقات خارج البيت في اللعب والتعارك مع أقرانهم ولا يعودون إلا عند منتصف الليل في حالات غير طبيعية، يفضحهم احمرار عيونهم وتثاقل ألسنتهم. وطالما شكت للأب عن طيشهم، غير أنها كانت كمن تشكو لأمواج البحر. فبمجرد أن يعود من رحلة البحر، حتى ينخرط في رحلة البر، وهي الأمر والأخطر، رحلة في اتجاه عالم القمار والخمر، تمتد من بداية الصباح إلى ساعات متأخرة من الليل، مفضلا البقاء في الحانات والرهان على سباق الخيل والكلاب، على مقاسمة زوجته أعباء البيت ورعاية الأطفال.
مرت الأيام والشهور والأعوام برتابة وقسوة، خاب أمل الأم ميلودة في أن ترى أبناءها ينهون دراستهم ويحظون بشرف الشغل، أو يتعلم بعضهم حرفة لدى الصناع والحرفيين في النجارة أو الحدادة أو الحلاقة وغيرها، أو الالتحاق بمراكز التكوين المهني، لتأمين مستقبلهم وانتشالها من غياهب العوز. تحطمت آمالها وتلاشت أحلامها، إذ بالكاد بلغ كبيرهم مستوى الجذع المشترك، بينما فصلت نوال من مستوى السنة الثالثة إعدادي. ورفضت تعلم الخياطة لدى إحدى النساء المحسنات وسط المدينة.
وزاد قلب “ميلودة” انفطارا جراء تعرض ابنتها “نوال” للاغتصاب وإصرارها على إخفاء هوية مغتصبها، مما أدى إلى تلقيها ضربة قوية في الرأس من طرف أحد إخوتها، أصيبت على إثرها بإعاقة مستديمة على مستوى لسانها ورجلها اليسرى. وقبل حتى أن تضع مولودتها الأولى، ماتت الأم من فرط الغم، لحق بها الأب خلال بضعة شهور. تفرقت السبل بالأبناء الذين جرفهم تيار الانحراف، وصار السجن وحده الفضاء الآمن لإيوائهم.
وبلا شفقة ولا أدنى تأثر سلمت نوال رضيعتها منذ أسبوعها الأول لامرأة دون حتى أن تعرفها، وهامت على وجهها في الأرض، لتنضاف إلى جحافل المهمشين والمشردين في المدينة “الغول”. تحولت البئيسة إلى لقمة سائغة في أفواه الجائعين من المجرمين والمنحرفين، يتناوبون على استغلالها جنسيا بالأماكن المهجورة ومواقف السيارات وقرب المحطات الطرقية، دون أن تكون قادرة على إبداء أي مقاومة أو رفض الاستجابة لنزواتهم، وطالما تسببت في اندلاع معاراك ضارية حول من يفوز الأول بمضاجعتها، بينما تظل، كقطة ضائعة، مستكينة لقدرها وانقضاض “القطط” الضالة عليها.
نشأت نوال وترعرعت كغيرها ممن ارتموا في أحضان الانحراف والتشرد، لأسباب متنوعة منها: التفكك الأسري أو الفقر أو عنف الأبوين أو الانقطاع المبكر عن الدراسة… في أحضان أسرة فقيرة ومرتفعة العدد، بمحيط اجتماعي متأزم، تؤثث أجواءه الأمية والبطالة وتجارة المخدرات وحبوب الهلوسة بشتى أصنافها، بسبب انعدام أبسط مظاهر التربية والتسلية، وغياب دور الرعاية الاجتماعية وإعادة إدماج المشردين، والسياسات العمومية الناجعة لاجثتاث الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية.
وهي اليوم تمتهن التسول نهارا، وتتعاطى التدخين والكحول والمخدرات ليلا، وكثيرا ما يقودها الجوع إلى النبش في حاويات الأزبال، والبقاء بجوارها إلى الصباح عندما تعجز عن مقاومة النوم.
انتفخت بطنها ووضعت ثم انتفخت ووضعت، واستمرت على نفس الحال دون أن تدري كم صغيرا وضعت، ولا إلى أين انتهى بأطفالها المآل؟.
اسماعيل الحلوتي