دعوة لنقاش هادئ حول الأمازيغية
عندما بدأت أهتم بموضوع الامازيغية، كنت قد كتبت كتابي الأول “مسار في تجربة اليسار-الجزء الأول” الصادر سنة 2011 عن منشورات “الزمن”، والذي حاولت من خلاله الحديث عن أهم الأحداث والوقائع التي سمعت عنها، أو التي عايشتها، أو تلك التي كنت جزءا منها، طوال ثلاث عقود من القرن الماضي.
و كنت آبى حتى الآن إقحامه والحديث عنه، بالحال الذي هو عليه، في آرائي التي قدمتها وأقدمها بين الحين والآخر للجمهور.
أما دوافع ترددي، سأبينها اليوم من دون أي لف أو دوران، ولا يهم إن كانت غير موفقة، أو ناقصة، أو غامضة ومرتجلة.
فالموضوع، سلفا، يحتاج إلى أسلوب جديد، وخطوط أولى لبعض المفاهيم، ومنظور جديد لبسط الوقائع والأفكار وما يرافقها من شوائب لا مناص منها.
إن العزم الذي أبداه “نشطاء الامازيغية” متعدد، وترجمته في الفضاءات العمومية شكل حافزا لكي أهتم بالموضوع، لكني أود أن أكرر التنبيه، لأقول أن رؤيتي المتواضعة، لا يمكن إدراكها إلا بشرط واحد، وهو اعتبار مقابلة أفكار “النشطاء” مع الواقع ليست، هي أيضا، دون جدوى ودون فائدة.
فلقد تتبعت العديد من النقاشات الأخيرة، حول الامازيغية، بالرجوع إلى ما جاء به دستور المملكة المغربية الأخير، وبالرجوع إلى دخان “الحرائق”، في جو الاحتقان الخانق الذي بات يسود مجمل الحركات الاجتماعية التقليدية.
لقد برزت أوسع خطوات التقدم في دراسة الأحداث والوقائع الاجتماعية، منذ عقود من الزمن.
ومن غير اللائق أن لا يستحق موضوع الامازيغية ما يجب أن يستحقه من اهتمام العلوم الاجتماعية كموضوع تخصص علمي من مواضيع تطور الإنسان.
وقد يكون من المفيد اليوم الإشارة إلى أن الفترة التي ترعرعت خلالها الحركة الامازيغية التقليدية شهدت نشاطا فاعلا، أبداه مثقفون و نخب وشباب في صراعهم ضد النخب الامازيغية المركزية والمؤسساتية.
إلا أن “شهر عسل المقاومة” هذا، وعلى ما يبدو، سرعان ما انقضى وبدأت الأمور تتطور باتجاه آخر. فقد غاب النقاش العام حول الثقافة الامازيغية وغيرها عن أسس وميادين العلوم الاجتماعية، وغاب معه الولاء الفكري للعلوم الاجتماعية، ليحل محله الولاء السياسي والولاء المنفعي، بحثا عن الرضا لقيمة ما، أو خوفا من “الفجوة الجيلية”، أو ضياع المصداقية والشرعية التاريخية النضالية.
وهكذا بقيت الامازيغية بالرغم من اعتبارها مكونا أساسيا من مكونات جغرافيا وديمغرافيا وثقافة ومؤسسات المغاربة، بعيدة عن التحليل الاجتماعي أو السيكولوجي، وبعيدا عن المعارف، أو الاعتقاد، أو حتى الايديولوجيا.
فهناك مشكلات معرفية أساسية لا يمكن حلها بالاحتجاجات وبالمزايدات والشعارات والتنابز، أو من خلال إصدار المواقف أو تنقيحها. ولا ننكر أن بعض أشكال الاحتجاج الثقافي قد يكون مفيدا إلى حد ما، لكن ربط الثقافة الامازيغية وموضوعها بالعلوم الاجتماعية يمكن أن يقدم تفسيرا مهما ومحترما لما يعتقده الناس ويسلكونه في حراكهم الامازيغي المتعدد والمتنوع.
ولا يمكن أن يستمر التعامل مع الموضوع من منطلق عصبي، اثني وبيولوجي، وفي أقصى الأحوال تاريخي وسياسي..
نحن اليوم في حاجة لزرع الشكوك في عقول المؤمنين حق الإيمان بعدالة المطالب الامازيغية، ولا ريب في أن موقفي هذا قد لا يعجب البعض إلى حد بعيد، وقد يجتهد البعض الآخر في محاولة تكييفه مع آرائي ومواقفي.
لا يهم، المهم هو أنني لا أستطيع ادعاء الحياد التام، لأنني قليل التعاطف مع الحركات الاجتماعية القائمة على القومية، أو الهوية العرقية، أو الدين، وبالوضوح التام لا تقنعني الحركات التي تستحضر حقوق الإنسان أو الثقافة من أجل التحريض على فعل سياسي.
ولا ريب في أن بعض الزعماء يمكن أن يظهروا كأنبياء للمجتمع الغارق في التخلف حتى الأذنين. لا كنهم حينما أنبأوا منذ عقود كثيرة بين الأجيال، كانوا يجهلون إمكانات التحولات التي حصلت في عصرنا، والتي لا يمكن الجواب عنها إلا بالعلوم الاجتماعية.
ولعل عدم الانسجام المتزايد، وربما التباين المتزايد، واتساع الشقة والرقعة بين الفاعلين الامازيغيين، الذين لا ينعم الكثير منهم بأي اختصاص، لا يتيح اليوم معالجة هذه الأمور مثلما كان ذلك بالأمس.
إن الامازيغية اليوم آلة معطوبة، تحتاج لورشة عمل ولصانع ماهر، و شغيلة محترفة، ولتنظيم اجتماعي نموذجي، يتقن التفكير والإبداع، ويؤمن بالشكوك النظرية والمخاوف المنهجية والحرية الأكاديمية.
إن موضوع العرق والثقافة والتاريخ، يلزمنا التريث قليلا، ويحثنا على إعادة الاهتمام بالثقافة ومدى قدرتها على معرفة ما نحن عليه، وهل فعلا احترام الاختلاف الثقافي يجب أن يكون أساس العدالة.