د.تدمري عبد الوهاب: في شأن العلاقة بين الأصولية السياسية الدينية و واليسار
د.تدمري عبد الوهاب: في شأن العلاقة بين الأصولية
السياسية الدينية واليسار
1- مقدمة
في سياق تتبعي لبعض السجالات الفكرية والسياسية التي ذهب من خلالها البعض إلى طرح السؤال حول الغاية من تأجيج الصراع بين قوى الإسلام السياسي وبين الطيف اليساري، وعن مدى مساهمة هذه النقاشات في توسيع المسافة وتأجيج التوتر بينهما بما يعيق خلق جبهة يسارية-إسلامية يراها البعض ضرورية لتغيير موازين القوى من أجل انجاز مهام التغيير الديمقراطي.
بل إن هناك من يرى أن هذا السجال ربما تكون وراءه الدولة كطرف مستفيد من هذا التوتر وهذا الوضع، من أجل إدامة تحكمها في مفاصل الدولة والمجتمع، وذلك بزرع بذور التفرقة بينهما حتى لا يكتب النجاح لهذا التحالف.
إني أحترم هذه القراءات بما ورد فيها من أفكار تعبر عن مواقف اصحابها، رغم كوني لست متفقا معها ولا مقتنعا بها، ذلك لأسباب سأتطرق لبعضها بالتحليل من خلال تناول عنصرين أساسيين شكلا نقاط تماس بين كل هذه القراءات.
وكذلك من أجل استحضار نقاش، قديم – جديد، تم التطرق من خلاله الى طبيعة العلاقة بين اليساريين في الكثير من بلدان العالم وما سمي في حينها بلاهوت التحرير المسيحي، وهل يمكن إسقاط هذه النقاشات على واقعنا الإسلامي، خاصة في شأن العلاقة التي يمكن أن ينسجها أو نسجتها بعض مكونات اليسار المغربي مع قوى الإسلام السياسي؟ وهل هناك من مقومات وشروط موضوعية لنجاحه؟ وإن كان الجواب بالنفي، فهل من ضرورة لتدخل الدولة المخزنية من أجل افشال هكذا تحالف؟
إن كان موقفي يختلف في هذا الشأن، فليس لكوني متموقفا من الدين الذي اعتبره يشكل مكونا أساسيا في تراثنا الروحي والثقافي، علينا واجب حمايته وتطويره، بل فقط لكوني ممن يدافعون عن فصل الشأن الديني كشأن إلهي خالص، يسعى للسعادة الروحية والأخلاقية للإنسان، عن الشأن السياسي الذي هو شأن دنيوي يحتمل قراءات مختلفة ومتعددة، وقد تكون متصادمة. وحتى لا نقحم الدين في أتون الصراع السياسي بما يشهده من تقاطبات قد تعصف بالوحدة الروحية للمجتمع، كما هو الشأن في الكثير من المجتمعات المشرقية التي تحولت الى مجموعات مذهبية متصارعة، بعد أن كفرت بعضها البعض واستباحت دماء من كرمهم الله من خلقه، وذلك في خرق سافر للآية الكريمة: “وَلَقد كرمنا بني أدم وَحملناهم فِي الْبر وَالْبحرِ وَرزقناهم مِنَ الطَّيبات وَفَضلناهم عَلَى كثيرٍ مِمنْ خَلَقنا تَفضيلًا” (الإسراء، الآية: 70)؛ بل استباحوا بدون حق حتي دماء شركائهم في الملة والدين ضاربين بعرض الحائط ما أنزله الله في الآية الكريمة “ومن يَقْتل مؤمناً متعمِّداً فجزاؤهُ جهنم خالداً فيها وغَضِبَ الله عليه ولعنَهُ وأعدّ له عذاباً عظيماً” سورة النساء آية 93…
إذن في سياق ما تم التطرق إليه لا بد لي أن أتوقف عند العناصر التي سبق أن ذكرتها بعد أن أعيد صياغتها كأسئلة وإشكاليات.
2- في تحليل نقاط التماس
أ/ في شأن التحالف اليساري الإسلامي
هل تواترت الشروط فعلا لقيام تحالف يساري إسلامي ضاغط من اجل انجاز مهام الانتقال إلى الديمقراطية؟ وهل هناك فعلا ما يؤسس لهذا التحالف علاقة بالأهداف المحددة أعلاه؟
إنني أعتبر هذه المسألة من الإشكاليات التي لم تحظ بالاهتمام المطلوب من طرف اليساريين والإسلاميين المغاربة، ليس على المستوى الإجرائي والعملي بل على مستوى التأصيل النظري، الفكري والسياسي. كما يجب ان نسجل أننا لا نتوفر فيها كذلك على تراكمات علمية ومعرفية، خاصة وأن هذا المسالة أصبحت واقعا يفرض نفسه بإلحاح أمام تعاظم نفوذ قوى الإسلام السياسي التي أضحت تشكل عنصرا مهما في مشهدنا الحزبي، ولاعبا أساسيا في أي معادلة سياسية. رغم أن هذه المسألة ليست بالجديدة على اليساريين خاصة المشارقة منهم، بحكم الحضور المتميز للكنيسة المشرقية في البنية الاجتماعية للشعوب الشرق أوسطية، وبحكم تأثر بعض رجال الدين المسيحيين، خاصة في فلسطين المحتلة، وعلى رأسهم رجل الدين المقدسي نعيم عتيق بأطروحات لاهوت التحرير اللاتيني، وتواجد الكثير من اليساريين المنحدرين من المنظومة الثقافية المسيحية في التشكيلات اليسارية الشرقية، الذين واكبوا النقاشات التي كانت تحبل بها الحركة السياسية والاجتماعية لشعوب أمريكا اللاتينية علاقة بلاهوت التحرير، ووقوف هذا الأخير موقف الانحياز الى جانب شعوبها المضطهدة من طرف أنظمة الحكم الاستبدادية، وهو ما جعله يتموقع إلى جانب قوى اليسار اللاتيني التي كانت تكافح من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية .
لكن ما يجب إدراكه هو أن هذا التموقع لم يكن إرادويا، ولم تمله رغبات ذاتية، بل أملته ظروف موضوعية مرتبطة بطبيعة الديانة المسيحية نفسها، التي لم ترتبط في نشأتها بقيام الدولة كشأن زمني إلا مع بداية القرن الرابع الميلادي مع الإمبراطور الروماني قسطنطين العظيم الذي اعتنق الديانة المسيحية، وليس كما هو الشأن مع الدين الإسلامي الذي ارتبط منذ النشأة بمعارك نشر الدعوة وبدولة الخلافة كشأن سياسي. كما أن الديانة المسيحية لا تحمل في كتابها المقدس ما يشير الى الجهاد كمفهوم يراد به تطويع كل من يعتقد بأنه خارج عن طاعة الله ورسوله بل هو جهاد النفس ضد الخطيئة من أجل إرضاء الله الذي يمر عبر بوابة الفقراء….
وهو ما ساعد رجال الدين المسيحيين في تأصيل اجتهاداتهم التي أحدثت قطيعة مع مفهوم مسيحية الدولة الذي ساد لقرون من الزمن، هيمنت من خلاله الكنيسة على الشأن السياسي أو العكس، بكل ما نتجت عنه من فظاعات في حق شعوبهم وذلك منذ أكثر من 500 سنة عندما أعلن مارتن لوثر ثورته الدينية بألمانيا، التي عمل من خلالها على فصل الدين عن الدولة.
كما أن اللاهوت المسيحي اللاتيني الذي انطلق مع بداية الخمسينيات من القرن الماضي، هو من انحاز لمطالب المجتمع وبالتالي لليسار في تلاق موضوعي معه وليس العكس، وذلك من خلال تبنيهم للتحليلات الاجتماعية والاقتصادية الماركسية التي تركز على إيلاء الاهتمام بالأوضاع الاجتماعية للفقراء والتركيز على التحرر السياسي للشعوب المضطهدة، وذلك في إطار ما أطلق عليه من طرف لاهوتي أميركا اللاتينية في السبعينات من القرن الماضي بالخيار التفضيلي للفقراء، الذين اعتبرهم جون سوبرينو “طريق متميز لنعمة الله”.
أو المهمة المتكاملة التي تجمع بين التبشير والمهمة الاجتماعية، ودون ان نغفل أن هذا الانحياز الذي عبر عنه لاهوت التحرير اللاتيني كان من خلال توجه فكري شمل رجال الدين المسيحيين باعتبارهم ذواتا فردية ، وليس كتجمعات أو كأحزاب سياسية تطرح نفسها كمشاريع سياسية مجتمعية بديلة لتدبير الشأن الديني والدنيوي، كما هو شأن حركات الاسلام السياسي الاخوانية الوهابية وفقهائها الذين يجمعون بين الدين والسياسة، بين الزعامة الروحية والزعامة الدنيوية ،ويقسمون الانسانية بين دار الإسلام ودار الكفر، التي عليهم واجب قتالها ، وليس قتلها، حتى وان لم تتوفر شروط الاقتتال كما ورد في الكثير من الآيات القرآنية الكريمة التي ربطت القتال برد الاعتداء وليس العكس، وذلك إعمالا لمفهومهم لمعنى الحكم بشرع الله، وما أنزله من بيان، الذي ورد في الكثير من الآيات القرآنية الكريمة، وهو حسب اعتقادهم ما يخول لهم مواجهة باقي التشريعات والقوانين الوضعية التي تدرج في مرتبة الكفر والجاهلية والإلحاد التي تستدعي الجهاد ضدها من أجل إعلاء راية الإسلام.. إنهم بذلك يدعون حسب اعتقادهم إلى الاقتداء بمنهج النبوة والسلف الصالح، الذين ربطوا الدعوة الاسلامية بقيام دولة الخلافة، وحملوا الدعوة على نصل السيف والإكراه، حتى وإن كانت باسم الفتوحات الاسلامية، وذلك في تناقض صريح مع مضمون ما ورد في كل من سورة الكهف، وسورة البقرة، التي تنص على أن لا إكراه في الدين، أو تلك التي خيرت الإنسان بين الإيمان والهداية أو الكفر. ولم يأخذوا الموعظة من رجل عظيم بسلوكه وإيمانه العميق بحرية الرأي والمعتقد، الذي اعتبره فولتير زمانه، أبو طالب، عندما قدم كل ما لديه وضحي بتجارته ومكانته بين أعيان قريش من أجل الدفاع عن الإسلام كدين جديد في إطار إيمانه بحرية الرأي والعقيدة، وليس فقط دفاعا عن ابن أخيه الرسول محمد عليه الصلاة والسلام كما يريد البعض أن يعرفه، وهو ما حدا بالنبي “ص” أن يستغفر له عندما كان على فراش الموت فطلب منه الشهادة حتى يجد ما يستغفر به الله من أجله. حتى أن رفضه النطق بالشهادة وتلبية رغبة ابن أخيه الذي هو النبي محمد “ص” كان سببا في نزول الآية الكريمة ” نك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين” سورة القصص. أو لاحقا في الآية الكريمة “ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى” سورة التوبة. وإلا لما كان كذلك موقف عمه الاخر أبو لهب معاديا ومحاربا له، رغم كونه الأخ غير الشقيق لوالده، ويقال عنه إنه فرح فرحا شديدا عند ولادته، مما حدا به لأن يعتق احدى جواريه احتفالا بهذه المناسبة، وهو ما يدل على أن موقف أبي طالب كان أعمق من أن ينسب لقرابة الدم فقط.
إن مسألة فصل الدين عن الدولة في العالم الإسلامي هي عملية صعبة ومعقدة ، تحتاج إلى علماء دين مغاربة جريئين ،متشبعين بالموروث الديني المغربي، قادرين على تخليص العقل الديني من كماشة الفكر ألإخواني والوهابي وعلى تغليب الجانب الإنساني والكوني للإسلام، بالرجوع إلى النصوص التي تدعو إلى التسامح وليس إلى العفو، وتغليب العمل بالآيات المكية التي تدعو إلى الأخلاق والفضيلة، وإحداث القطيعة عبر اجتهاداتهم مع الموروث الفقهي السائد الذي يستند غالى قراءة منغلقة ورجعية للنص القرآني، الذي رسمه معاوية بن أبي سفيان ولاحقا ابنه اليزيد الذي كان أول من رجم مكة، بكل رمزيتها، في عصر دولة الإسلام، وذلك من أجل تكريس تبعية الديني للشأن السياسي أو العكس، عندما يضعف هذا الأخير، وتطوير المنظومة الدينية والفقهية الإسلامية بما يحررها مما لحق بها من ترسبات سلفية بالشكل الذي ينسجم ومتطلبات القرن الواحد والعشرين، وما تتطلع إليه الشعوب الإسلامية من قيم الحداثة والديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وهي قيم لا تستقيم إلا بفصل الدين كشأن الإهي عن الدولة كشأن دنيوي.
أما أن نعمل على إسقاط ما تمت مراكمته من علاقات وطيدة بين لاهوت التحرير المسيحى ومكونات اليسار في مختلف دول العالم من أجل تحرير الإنسان من الفقر والاضطهاد الذي مارسته ومازالت تمارسه أنظمة الحكم الجائرة في حق الشعوب، على واقعنا في العالم الإسلامي الذي يشهد الكثير من الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية بالشكل الذي يعود بنا إلى عصور الكنيسة المظلمة بأوروبا، فهذا سيكون من باب المجازفة والعبث. ولنا في بعض النماذج في العالم الإسلامي ما يثبت عدم حجية هذا الإسقاط وبطلانه. وفي هذا السياق يمكن الاستدلال بثورة إيران الشعبية التي عاصرت هذه النقاشات التي سبق أن ذكرناها ، والحضور المتميز لليسار فيها من خلال اللجان العمالية والمجالس الشعبية منذ انطلاقتها في يونيو 1977 وذلك حتى قبل التحاق الملالي بها في دجنبر من نفس السنة، والذين عملوا على بسط هيمنتهم عليها تدريجيا بالعنف والاغتيالات والإعدامات في حق باقي المكونات اليسارية والعلمانية التي كانت طرفا مبادرا وأساسيا فيها ، وذلك من خلال حزب الجمهورية الإسلامية الذي عمل على استئصال جميع التنظيمات المحسوبة على اليسار أو التيار العلماني البرجوازي، وهيمن على المجالس الشعبية أو العمالية بعد أن استحال عليه في البداية القضاء عليها. دون ن نغفل أن ما ساعدهم في ذلك كذلك هي الشخصية الكارزمية للإمام الخميني وتبني هذا الأخير مواقف عدائية من أمريكا توجت باحتلال الطلبة ذوي التوجه الإسلامي للسفارة الامريكية، وقيام الحرب العراقية الإيرانية، هذا بالإضافة للمواقف المتذبذبة للقوى اليسارية والعلمانية من القوى السياسية الدينية، بحكم اعتقاد البعض منهم بأهمية التحالف مع القوى الإسلامية لإنجاز المهام الثورية اقتداء بما كانت تعيشه أمريكا اللاتينية من تحالفات مماثلة.
وفي واقعنا المغربي لا بد كذلك من استحضار فشل هذه الأطروحة من خلال ما تم رصده من انتهازية في مواقف قوى الإسلام السياسي، خاصة إبان الاحتجاجات الجماهيرية لحركة 20 فبراير، حين افتضحت حقيقة هذه القوى التي انسحبت من الشارع ومن اللجان الداعمة بمجرد أن عقدت صفقاتها السياسية مع الدولة، ضاربة بعرض الحائط جميع اتفاقاتها السابقة مع بعض أطراف اليسار المقتنعة بضرورة هذا التحالف من أجل انجاز مهام التغيير الديمقراطي، رغم أنها كانت دوما حريصة على إبراز عضلاتها في التظاهرات الجماهيرية التي كانت تشارك فيها، وذلك ضدا على باقي الأطراف المشاركة من خلال انعزالها والتفرد بشعاراتها الغارقة في التعبئة السياسية الدينية المعادية لقيم الحداثة والديمقراطية، حتى يبدو للمتتبع العادي أنا نشهد تظاهرة من زمن صلح الحديبية وسط ما يفترض أن يكون تظاهرة مشتركة لجميع الفعاليات المساهمة فيها، بالإضافة إلى ما شهدناه منها من إنزال لأنصارها في تظاهرات معادية لقيم الحداثة، و للتوجه العام الذي عبرت عنه الجمعيات و القوى الديمقراطية خاصة في مسألة مدونة الأسرة. ولا يفوتنا كذلك أن نستحضر موقفها مما تبقى من مجالات التنسيق معها في المجال الحقوقي، وذلك من خلال انسحابها من الائتلاف المغربي لحقوق الإنسان كآلية للعمل المشترك التي تشكلت على خلفية حركة 20 فبراير، والذي طالما اعتبرناه تحالفا هجينا يجمع بين من يعتقد بكونية وشمولية حقوق الإنسان، وبين من يؤمن بالمرجعية الإسلامية لحقوق الإنسان وسموها على باقي القوانين والتشريعات الكونية، وما الانسحاب الأخير لجمعية كرامة من هذا التحالف سوى تحصيل حاصل، ويؤكد على استحالة استمرار هكذا تحالف.
أقول قولي هذا لكوني لم استوعب بعد كيف يندفع بعض اليساريين المغاربة في اتجاه عقد تحالفات مع قوى الإسلام السياسي، وهي التي تحمل مشروعا سياسيا نقيضا لقيم الحداثة والديمقراطية ولا يعملون في مقابل ذلك على تجاوز خلافاتهم الذاتية مع باقي القوى والجمعيات الديمقراطية من أجل تشكيل جبهة ديمقراطية وطنية عريضة تكون من مهامها انجاز عملية الانتقال الى الديمقراطية على قاعدة برنامج حد أدنى، منفتح على كل القوى التي تلتزم بالعملية الديمقراطية كممارسة وقناعة إستراتيجية .
ب – الدولة وموقعها من النقاش الفكري والسياسي بين اليسار وقوى الإسلام السياسي:
قبل مقاربة هذا العنصر الذي اوردته في سياق التحليل، لابد من طرح بعض الأسئلة المستفزة.
هل من حاجة لأن تلعب الدولة المخزنية دور المحرض لتأجيج التوتر بين اليسار وحركات الإسلام السياسي؟ وهل لليسار موقع يؤهله لأن يشكل فعلا عنصر قلق للدولة؟ أم أن ما يجمع الاصولية الدينية والأصولية السياسية المخزنية اقوى من اي علاقة يمكن أن تربطهما باليسار، وأن تحالفهم يتموقع بطبيعته على نقيض المشروع اليساري الديمقراطي.
اولا وقبل كل شيء يمكن القول إن اليسار بمختلف تياراته وأحزابه لم يعد يشكل بالنسبة للدولة المخزنية أي تهديد يذكر بفعل واقع التشتت التنظيمي الذي يشهده، وعدم قدرته على مراجعة تصوراته السياسية، وتجديد أدوات اشتغاله من أجل استعادة قدرته على الفعل والتأثير والتعبئة.. مما جعله منكفئا على نفسه و معزولا على المجتمع الذي فقد الثقة في الدولة ومؤسساتها وفي جميع القوى السياسية بمختلف تلاوينها بما فيها القوى اليسارية. كما أن الطبيعة السياسية لهذه القوى الدينية وما تتبناه من مشاريع سياسية ومجتمعية بديلة يجعلها تتموقع موضوعيا في الجانب النقيض من المشروع المجتمعي الحداثي لقوى اليسار. وبالتالي ليس هناك ضرورة لتدخل الدولة المخزنية في اتجاه تصعيد التوتر بين هذه القوى وتلك المحسوبة على الإسلام السياسي خاصة أمام ما نشهده من تحالف بين الاصولية المخزنية والاصولية الدينية التي وضعت كل طاقاتها في خدمة الدولة حتى وإن كان ذلك على حساب مصالح الشعب المغربي المتمثلة في التنمية والديمقراطية.
وهو ما نسجله من خلال تمريرها من داخل مسؤوليتها الحكومية للكثير من المشاريع والإجراءات الاقتصادية التعسفية المملات من المؤسسات الدولية المانحة. أو من خلال عدم انخراطها في الكثير من الحركات الاحتجاجية الجماهيرية سواء تلك التي تدعو للنزول للشارع، أو تلك التي تدعو الى مقاطعة بعض المواد والسلع الاستهلاكية لبعض الشركات التي يحملها المجتمع مسؤولية ما آلت إليه أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية.
كما أن هذا التحالف الذي قد يبدو تكتيكيا من الجانبين وتسوده علامات الحيطة والحذر من جانب الدولة من جهة ،التي تتوجس من الحضور المتنامي لحركات الإسلام السياسي ومن طموحاتها السياسية التي تهدف إلى إخضاع السلطة السياسية لإرادتها من خلال تحكمها المتدرج في مفاصل الدولة والمجتمع ومن مؤسسات الشأن الديني، التي يمكن أن نعتبرها ثمنا مقابل ما تمرره عن وعي من إجراءات غير شعبية من داخل مسؤوليتها الحكومية ، أو ما تبديه هذه الاخيرة من جهة اخرى ، من حيطة وحذر من الدولة المخزنية التي عملت تاريخيا على توظيف الحقل الديني لضمان استمراريتها وترسيخ مشروعيتها ،وبالتالي فهي
لا تستأمن جبروت السلطة التي تعمل على كبح طموحاتها وتطويعها في أفق جعلها عنصرا ينضاف إلى باقي العناصر المؤثثة لمشروعيتها الدينية ، ويعزز من إمكانياتها في ضمان استمراريتها في الحكم والسلطة. كما أن هذا التحالف الذي يأخذ شكل زواج المتعة عند بعض الفقهاء، ورغم كونه يبدو تكتيكيا لا زال يتمتع بكل مقومات الاستمرارية لما يشكله من حاجة موضوعية متبادلة ترى فيه الدولة عنصر استقرار سياسي واجتماعي ضروري لهذه المرحلة لما تتسم به من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية ،تغيب فيه البدائل الحزبية التقليدية والادارية الأخرى ،التي فقدت مصداقيتها لدى غالبية الشعب المغربي ،ولم يعد لها أي تأثير في الشارع السياسي .
في حين ترى فيه قوى الإسلام السياسي مناسبة لتوطيد حضورها في المجتمع والدولة والمؤسسات الدينية ، والاستفادة أكثر ما يمكن مما يتيحه لها مشاركتها في السلطة السياسية ، التي تتقن من خلالها المزاوجة بين مسؤولياتها الحكومية و لعب دور الضحية الذي تسوقه للمجتمع ولقواعدها عبر آلياتها الإعلامية والتنظيمية.
انه اذن تحالف طبيعي رغم كل ما يشوبه من توجسات وحذر متبادل بين مكونين سياسيين أصوليين. تحالف شهد في صيرورة تطوره مرحلتين متعاقبتين .
-مرحلة السرية التي مرت من خلالها هذه العلاقة عبر الغرف المغلقة للدولة العميقة، وما كان يتخللها من توجيهات السلطة المخزنية للاصولية الدينية بغاية محاربة قوى اليسار في الجامعات والشارع السياسي ، في مقابل دعمها و تيسير عملية اشتغالها في مجالات متعددة ، بما فيها الحقل السياسي والديني والتربوي بعد أن أعدمت الدولة كل البرامج والمقررات التعليمية التي تعمل العقل على حساب النقل ،والتي اعتبرتها سببا في انتشار القيم الحداثية واليسارية وذلك ابتداء من مرحلة أواخر السبعينات من القرن الماضي
-مرحلة التحالف السياسي العلني الحالي ،الذي ساهمت في انضاجه الظرفية الصعبة ،الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الراهنة ،وتبوء هذه القوى لصدارة المشهد السياسي الذي انتفت فيه القوى السياسية التقليدية وفقدت قدرتها على التأثير والتأطير.
وهو ما يمكن اعتباره تطورا طبيعيا، وثمرة علاقة شهدت الكثير من المد والجزر في ما بينهما، أساسها الشراكة في السلطة السياسية سواء من موقع الأغلبية النسبية أو الأقلية البرلمانية وذلك بتزكية وضمانة من قوى الرأسمال العالمي. فكلاهما في حاجة الى هذه القوى من اجل ضبط نبض الشارع السياسي، وضمان استقرار المجتمع بما يكفل استمرارية مصالحهم الآنية والاستراتيجية.
3- خلاصة
أن القاسم المشترك بين الدولة وحركات الإسلام السياسي، هو توظيف الشأن الديني من أجل خدمة مشاريعهم السياسية ولو بخلفيات وغايات مختلفة. وما تفتقد إليه الدولة من أجل ضبط نبض الشارع السياسي وتمرير ما يملى عليها من مخططات من طرف المؤسسات المالية الدولية، تجده في حركات الإسلام السياسي. وما تحتاج إليه هذه الأخيرة تجده في السلطة المخزنية وما تتيحه لها من إمكانيات للتمكن من مفاصل الدولة ومؤسساتها السياسية عبر مشاركتها وتسييرها للحكومة من خلال تجربتين انتخابيتين متتاليتين، ومن امارة المؤمنين التي تفتح لها أبوابا واسعة للولوج والتحكم في مؤسسات الحقل الديني. وبالتالي علينا قراءة هذا التحالف من زاوية ،غير تلك التي تعتبره تحالفا لحظيا رغم كل الحيطة والحذر التي يبديها الطرفين من بعضهما البعض ،بل يمكن رايته من زاوية التحالف المصلحي المفكر فيه جيدا ، والذي يتمتع بكل مقومات الاستمرارية كونه يشكل في نهاية المطاف تلاق موضوعي ،بين الأصولية الدينية والأصولية السياسية المخزنية بغض النظر عن من سيخضع لمن ، وهو ما يندرج ضمن ما نشهده من تشنجات ظرفية بين الطرفين، اما من خلال بعض الإشارات والإجراءات التي تتخذها الدولة من أجل تحجيم دورهم ، او ما نسمعه من تصريحات نارية نقدية، أو حتى مبطنة بالتهديد لبعض قياديي حركات الإسلام السياسي، لكن دون أن يبلغ حد القطيعة والعداء ..وبالتالي ومن خلال ما يجمعهم من مصالح مشتركة ،يمكن اعتبارهم وجهان لعملة واحدة و ضحيتهم المشتركة الاولى هي المسألة الديمقراطية من جهة ،التي على القوى اليسارية واجب النضال من أجلها ضدا على الاصوليتين ،ومن جهة أخرى يمكن اعتبار الدين الإسلامي كمعتقد روحي لعموم المغاربة ضحيتهم الثانية، وعلى الفقهاء ورجال الدين المغاربة المتنورين واجب تحرير الحقل الديني و تخليصه من التوظيف السياسي، والكف عن إقحامه في أتون الصراعات الدنيوية. وإلى ذلك الحين، على الفعاليات الديمقراطية والوطنية أن تلتئم في إطار جبهة عريضة على قاعدة برنامج حد أدنى، قوامه الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وفصل الشأن الديني عن الشأن السياسي وهو ما لن تبتغيه الاصولية الدينية ولا الاصولية السياسية المخزنية.
انتهى