سعيد بعزيز يكتب: البؤر المهنية وسؤال حفظ صحة وسلامة الأجراء
سعيد بعزيز/ برلماني
وأنا استمع إلى تعداد عشرات الإصابات في البؤر المهنية بمجموعة من المدن، في إطار تتبع الوضع الوبائي ببلادنا، الذي تميز خلال الأسبوع الأخير بظهور بؤر وبائية خطيرة، لا ذنب للأجير فيها، عادت ذاكرتي إلى السبت الأسود، بدوار لوزازنة ليساسفة، الذي صادف يوم 26 أبريل 2008، إذ حوالي الساعة العاشرة والنصف صباحا اندلع حريق آتى على مجمل طوابق بناية شركة للإسفنج، في بناية تتكون من طابق سفلي وثلاثة طوابق، إضافة إلى سطح البناية، حيث الطابق السفلي خصص للنجارة والطابقان الأول والثاني خصصا لتركيب الأفرشة، أما الطابق الثالث فهو مخصص للخياطة والفصالة، والسطح لخزن المواد الأولية والأكياس البلاستيكية، فأدى إلى وفاة 56 شخصا من الأجراء وإصابة العشرات منهم بجروح متفاوتة الخطورة، جراء اندلاع النيران في السدة المتواجدة بالطابق السفلي، إذ كان أحد الأجراء يدخن سيجارة ويضع عقبها على جانب طاولة يشتغل بها، وسهوا وضع عليها قطعة من الإسفنج، فاندلعت النيران فيها خلال الوهلة الأولى، وبحكم تواجد مواد كيماوية قابلة للاشتعال آتى الحريق على مجمل الطوابق.
عناصر الوقاية المدنية آنذاك، وضعت تقريرا في الموضوع، بمناسبة قيامها بالتدخل، خلاصته تسجيل ارتكاب المشغل مخالفات النظم والقوانين الجاري بها العمل، أبرزها صعوبة الولوج إلى داخل البناية والمرور على مستوى المسالك والممرات، والتخزين في أماكن وجود الأجراء، وغياب التكوين لديهم في مجال التدخل، ووجود نوافذ محكمة الإغلاق يتعذر معها الفرار في حالة وقوع كارثة ما، وانعدام قوة دفع أنابيب مياه الإغاثة وعدم احترام التصاميم المعتمدة عند تسليم رخص البناء وتغيير طبيعة النشاط دون إذن مسبق وإلغاء العوازل بين المستخدمين…إلخ.
هذه الحادثة الأليمة، أصدر على إثرها جلالة الملك تعليماته للحكومة، من أجل بذل مساعي ومجهودات مضاعفة وإيلاء أهمية خاصة لقطاع الصحة والسلامة المهنية والوقاية من الأخطار المهنية، والذي يعتبر التعويض عن الأضرار المترتبة عن هذه الأخطار أحد مكوناته الأساسية، ومن بين ثمرات ذات التعليمات، إصدار قانون رقم 18.12 يتعلق بالتعويض عن حوادث الشغل، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.14.190 بتاريخ 06 ربيع الأول الموافق لـ 29 دجنبر 2014.
طبعا، هذه الحادثة، وعشرات الضحايا الأجراء المصابين في بؤر مهنية، مردها إلى غياب التدابير المتعلقة بحفظ الصحة والسلامة، والوقاية من المخاطر، سيما في زمن انتشار فيروس كورنا ـ كوفيد 19، حيث الوزارة الوصية أصدرت بلاغا رسميا في بداية الأزمة، يتضمن التدابير والإجراءات الوقائية والاحترازية التي يتعين على المشغل القيام بها، والدليل التوضيحي حول الإجابات عن الاسئلة المحتملة لتدبير ظروف العمل في ظل الوضع الاستثنائي المتعلق بخطر تفشي فيروس كورونا المستجد، حيث أكدت على اتخاذ المشغل جميع التدابير الوقائية والاحترازية المعتمدة من طرف السلطات الصحية، والحرص على فرض احترامها من قبيل قياس حرارة الجسم عند الدخول إلى المعمل، وإجراءات أخرى أعادت التذكير بها من خلال البلاغ الحكومي الصادر يوم أمس الجمعة 17 أبريل 2020 عن وزارة الصحة، وزارة الصناعة والتجارة والاقتصاد الأخضر والرقمي، ووزارة الشغل والإدماج المهني تحث من خلاله أرباب ومسيري المقاولات والوحدات الصناعية والإنتاجية على تعزيز التدابير الوقائية والاحترازية، عبر التأكد من نظافة أماكن العمل، والاستعمال الإجباري للكمامات من طرف الأجراء والزبناء وتنظيم العمل بشكل يضمن تقليص كثافة الأجراء أثناء العمل أو التنقل منه وإليه، مضيفة أن اللجان الدائمة المختلطة ستتكلف بمراقبة مدى الالتزام بهذه الإجراءات واتخاذ التدابير الزجرية في حق المخالفين.
واعتبارا لمضمون الفقرة الأولى من المادة الثالثة من مرسوم بقانون رقم 2.20.292 بتاريخ 23 مارس 2020 يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، التي تنص على أنه “على الرغم من جميع الأحكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، تقوم الحكومة، خلال فترة إعلان الطواري، باتخاذ جميع التدابير اللازمة التي تقضيها هذه الحالة، وذلك بموجب مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية، أو بواسطة مناشير وبلاغات، من أجل التدخل الفوري والعاجل للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية للمرض، وتعبئة جميع الوسائل المتاحة لحماية حياة الأشخاص وضمان سلامتهم”، مما يجعل المشغل الذي لم ينفذ التدابير الوقائية والاحترازية المعلن عنها في البلاغ المذكور، مخالفا للأحكام المتعلقة بالتقيد بالأوامر والقرارات الصادرة عن السلطات العمومية بشأن حالة الطوارئ الصحية، ويستوجب المتابعة.
ومن جهة أخرى، ومن بين أهم الأوراش الاجتماعية لحكومة ذ. عبد الرحمان اليوسفي، أوجب المشرع في القانون رقم 65.99 المتعلق بمدونة الشغل الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.03.194 بتاريخ 11 سبتمبر 2003،على المشغل، أن يتخذ جميع التدابير اللازمة لحماية سلامة الأجراء وصحتهم، وكرامتهم، لدى قيامهم بالأشغال التي ينجزونها تحت إمرته، وعليه أن يطلع الأجراء كتابة، لدى تشغليهم، على المقتضيات المتعلقة القانونية والتدابير المتعلقة بحفظ الصحة والسلامة، وبالوقاية من خطر الآلات، وعلى كل تغيير يطرأ عليها، والتغيير الطارئ في هذه الظرفية الراهنة، هو بلاغ السلطات العمومية، الذي شدد من التدابير والإجراءات الاحترازية المتخذة لحماية سلامة الأجراء وصحتهم من عدوى الإصابة بفيروس كورونا ـ كوفيد 19، في مقرات عملهم، وذلك تحت طائلة المتابعة القضائية، والحكم بالقيام بالأشغال المطلوبة لحفظ الصحة والسلامة، والإغلاق لمدة محددة.
اليوم، من الملاحظ، أن البؤر المهنية التي أصيب فيها الأجراء بالفيروس، غالبا ما يتجاوز عدد العمال خمسين أجيرا، وهو ما يستوجب توفرها على لجان السلامة وحفظ الصحة، وهي مسؤولة بدورها عن استقصاء المخاطر المهنية التي تهدد الأجراء بسبب هذه الجائحة، والعمل على تطبيق ما جاء بالبلاغ والسهر على حسن صيانة استعمال الأجهزة المعدة لوقاية الأجراء منه والحفاظ على البيئة داخل المقاولة ومحيطها، كما هي ملزمة أيضا وبموجب القانون بإجراء تحقيق عند إصابة الأجراء بهذا الفيروس داخل مقر عملهم، كما أن أطباء الشغل، ملزمون بتحيين بطائق المقاولات قصد تضمينها خطر فيروس كورنا الذي يهدد الأجراء في مقرات عملهم، وأما مفتشو الشغل، تناط بهم مهمة السهر على تطبيق الأحكام التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالشغل، بما في ذلك تنزيل قرارات السلطات العمومية المرتبطة بهذه الظرفية الحرجة، والتحسيس وتقديم النصائح، إضافة إلى التبليغ عن كل التجاوزات المرتكبة من طرف المشغل، لكن لسوء الحظ، بلادنا لم تهتم بعد بفئتي أطباء ومفتشي الشغل، فعددهم على المستوى الوطني قليل جدا مقارنة مع بعض الدول التي تتجاوزها بلادنا في مؤشرات نمو الاقتصاد الوطني، وظروف عملهم كارثية، بسبب غياب المعدات اللازمة لذلك.
وعودة إلى محرقة ليساسفة، فتحديد التدابير التطبيقية لحفظ صحة الأجراء وسلامتهم، مع استحضار ما تقتضيه خصوصية بعض المهن والأشغال من متطلبات، قد صدرت بعدها بأسبوعين، ويتعلق الأمر بقرار لوزير التشغيل والتكوين المهني رقم 93.08 بتاريخ 12 ماي 2008 بتحديد التدابير التطبيقية العامة والخاصة المتعلقة بالمبادئ المنصوص عليها في المواد من 281 إلى 291 من مدونة الشغل، مما يؤكد أن السياسة العمومية المتبعة في هذا المجال تهيمن عليها الارتجالية واللجوء إلى المسكنات المؤقتة والظرفية، إذ تقتصر على معالجة القضايا الآنية، في غياب شبه تام لآليات المواكبة.
إن جشع بعض المشغلين، وصعوبة التكيف مع التقدم التقني في مجال بعض الصناعات الحديثة، وعدم احترام الضوابط والتدابير التطبيقية المعمول بها لحفظ صحة وسلامة الأجراء، خاصة مع انتشار فيروس كورنا ـ كوفيد 19، ساهم في إلحاق إصابات جسدية وأخرى نفسية بالعديد من الأجراء، ومعلوم أنه على المستوى الدولي، أكدت الاتفاقية الدولية رقم 155 بتاريخ 03 يونيو 1981 في المادة الثالثة منها أن تعبير الصحة لا يعني مجرد عدم وجود مرض أو عجز، فهو يشمل أيضا العناصر البدنية والعقلية التي تؤثر على الصحة وتتعلق مباشرة بالسلامة والقواعد الصحية في العمل.
وأكيد، أن الأجير هدفه الوحيد هو الشغل من أجل كسب قوت يومه، وليس أن يعرض نفسه للمخاطر، فهو الطرف الضعيف في العلاقة الشغلية، وغالبا ما يتعرض لمختلف أنواع الاستغلال الناجم عن عدم احترام المشغل للمنظومة القانونية المرتبطة بالشغل، وبالتالي، فمن الواجب على الحكومة، سيما في الظرفية الراهنة التي تتسم بالتأثير السلبي لفيروس كورونا – كوفيد 19 على الأجراء في الوسط المهني، وحفاظا على صحتهم وسلامتهم، والعمل على التدخل عبر إجراءات تطبيقية من أجل ضمان التوفيق والتكامل بين الحاجة الملحة للشغل والمخاطر المحيطة به، على أساس أن الشغل يعتبر مدخلا أساسيا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويساهم في حل العديد من المشاكل الاجتماعية ومعالجة القضايا المجتمعية الكبرى.
هذا، دون أن يتم إغفال المجلس الاستشاري “مجلس طب الشغل والوقاية من المخاطر المهنية”، الذي يتعين عليه أن يتحرك في هذه الظرفية، وإلا فما الجدوى من وجوده؟ فتقديم الاقتراحات والآراء من أجل النهوض بمفتشية طب الشغل، والمصالح الطبية للشغل، وفي كل ما يخص حفظ الصحة والسلامة المهنية والوقاية مما يمكن أن يعترضه من مخاطر مهنية، ضرورة ملحة في الوقت الراهن.
فكفى من الاستغلال البشع للأجراء، ولنتعامل بكل مسؤولية وحس وطني عبر تطبيق التدابير والإجراءات الوقائية والاحترازية المتخذة من طرف السلطات الصحية لحفظ صحة وسلامة الأجراء.