قنجاع يكتب: في انطولوجيا اللعب والسلطة
عزيز قنجاع
يعد اللعب احد اهم ركائز العملية الفرجوية فهو يوفر للفرجة مادتها وتيمتها الاساسية، واذا كانت الفرجة تستمد وجودها الاصلي لا من اللعب فقط بل من عدة انواع من العروض التعبيرية والغنائية والرياضية الا ان اللعب يبقى مع ذلك مادة اساسية للفرجة. وكذلك يسيح اللعب و يختلط مع الوان فرجوية عديدة.
اللعب عند المغاربة”
اذا تساءلنا هل المغاربة شعب يلعب؟ سؤال قد يكون الجواب عنه بالنفي ممكنا، فرغم ضخامة الإسطوغرافيا المغربية وحجم عملية التحقيق الدؤوبة، فإننا لازلنا نلاحظ أن تيمة اللعب عند المغاربة من التيمات المسكوت عنها، بل من التيمات المنعدمة في مصادرنا التاريخية المغربية، عكس رديفاتها الإغريقية والرومانية. فإذا استثنينا بعض النتافات البسيطة والإشارات المبتسرة ، فإن اللعب لم يتم التأريخ له ولا الاشتغال عليه بسبب حشره ضمن ثقافة العامة والغوغاء والسوقة و الاغفال، وتم اعتباره بابا من أبواب الهزل وقلة المروءة، وحتى وقتنا الراهن، وإذا استثنينا مجال السينما، وخصوصا فيلم «موسم المشاوشة» لمحمد عهد بنسودة، فإننا لا نجد كتابات تخص هدا الموضوع.
وحتى بالنسبة للفروسية التي تعد أشهر استعراض فرجوي بالمغرب فإن أقدم نص يؤرخ لها يعود إلى سنة 1818، «حلية الفرسان وشعار الشجعان» لمؤلفه علي بن الهذيل الأندلسي. لكن يبقى السؤال: هل الفروسية تدخل ضمن خانة اللعب؟ وهو ما يعيدنا إلى السؤال الجوهري حول معنى اللعب. ماذا نعني بمفردة اللعب .
قبل ان اجيب على هذا السؤال ساستعرض عليكم نصا دونه الحسن الوزان المعروف بليون الافريقي في موسوعته «وصف إفريقيا» حول بعض الألعاب التي مارسها شباب المدن بالمغرب،واسمحولي ساستعرض عليكم النص باكمله ، يقول الحسن الوزان
” لا يوجد بين الناس المهذبين من ذوي الهيئات الحسنة غير لعبة واحدة هي لعبة الشطرنج تبعا لعادة اسلافهم . وهناك لعب اخرى مستهجنة لا يمارسها الا رعاع القوم.
يجتمع الشبان في أوقات معينة من السنة ، فيحمل اهل زقاق منهم العصى ليحاربوا اهل زقاق اخر ، وقد يشتد الخصام بينهم فيأخذون السلاح ويموت عدد من كل فئة ، لا سيما في الاعياد ، حيث يجتمع الشبان في ظاهر المدينة ، وبعد انتهاء الاشتباك ياخذون في التراشق بالاحجار حتى قد يعجحز رئيس الشرطة عن تفريقهم و الحجز بينهم، الا انه يلقي القبض على البعض منهم ، ثم يجلدون ويطوفون في المدينة ، وفي الليل يخرج كثير من المتنطعين مجتمعين مسلحين الى ظاهر المدينة فيتجولون في البساتين و الحقول حتى اذا لقوا متنطعين من زقاق معاد لهم ، وقع شجار عنيف بينهم لانهم يكنون بعضهم لبعض عداوة قاتلة بصفة دائمة وكثيرا ما يتعرضون للعقاب الصارم”.
هذا النص يبين بالملموس ان اللعب عند المغاربة لم يكن موضوعا اجتماعيا مقبولا بل كان موضوعا مستهجنا ” فيقول الوزان وهناك لعب اخرى مستهجنة لا يمارسها الا رعاع القوم”. وهو اشكال من الممارسات الاجتماعية الخارجة عن الضبط، كما يصفه الوزان ، فاللعب نجده هنا مجموع ممارسات تبتدا لتسيح فعليا الى اغراض اخرى غير مضبوطة ، لقد قلت قبل قليل في تساؤل عابر هل يمكن اعتبار الفروسية نمطا من اللعب ، هذا يدفعنا لأعيد السؤال حول متى يمكن ان نسمي شكلا اجتماعيا من الممارسات لعبا او بما يدخل في خانة معنى اللعب، وما يصفه الوزان باللعب هل هو لعب حقا او يمكن ان نطلق عليه لعبا ، ومتى تكون ممارسات محددة موضوع لعب او يمكن ان نسمها بميسم اللعب .
اذا أردنا إعطاء تعريف دقيق للعب قلنا ان : “اللعب يؤلف نظاما مصطنعا، ذو قواعد تخرج به عن الحياة العادية أمتت هذه الحياة بصلة الى الطبيعة ام لم تمت”
لا نجد لعبا لا يقوم ولا ينفصل عن المشاحنة و المكالبة والمساواة والممانعة و التقدم .اي انه لا ينفصل عن اعادة انتاج صورة المجتمع الطبيعي المبني على المراتب التي تنال بالغلبة التي تؤسس للسلطة والتسلط و الاحتكار الرمزي او الفعلي للسلطة ، فكل سلطة قائمة هي سلطة كان بزوغها مقرونا دائما بالمشاحنة و المكالبة والممانعة و الاقصاء والغلبة.
بالمقابل وهنا نسقط في نفي او نقيض الاطروحة وهي ان اللعب حيز مقطوع الصلة بما عداه . فاللعب لا يخضع لاية سلطة مهما كانت قوتها فخضوعه لا يكون الا لنفسه هو ، فاللعب هو الحيز الوحيد المتحرر من السلطة ودواعيها ولا يسري عليه اي قانون من خارج حيزه ، فاللعب حين يمارس كلعب لا ينضبط الا لقواعده الخاصة، فيبدو على اثر ذلك وجود حيز للعب مستقل عن السلطة ولو نسبيا، يبدو للوهلة الاولى وكانه يحد من دائرة السلطة وهي دائرة نعرف جميعا الى نزوعها الذي لا يُحد الى الشمول والتوسع والاحتواء.
ثم ان نزوع اللعب للتحرر من السلطة قد يبدو في ذات الآن تمرين مبكر على الانضواء الجذري في خانة الفوضى، مادام ان اللعب هو فعل مرغوب، مطلوب في سن مبكر من العمر أي في الوقت الذي يكون الانسان الطفل فيه بصدد التلقين ، فيبدو اللعب استدراج نحو الخروج عن السلطة بما تمليه في حضورها – أي السلطة- من حدود وموانع وحصر، كما هو حال نص الحسن الوزان الذي يشير الى ان هناك لعب مستهجنة لا يمارسها الا رعاع القوم، ” فيسرد لنا احوال اللعب في فاس لدى العامة وهو لعب يخرج عن السلطة ويتجاوزها الى الفعل الضار المفضي الى القتل “.
قلنا سابقا ان اللعب لا يخضع الى اية سلطة ولكن قلنا في جملة اعتراضية ان خضوعه لا يكون الا لنفسه، لذا فان التدقيق في معنى اللعب ودلالته يحور انطباع الوهلة الأولى وقد يطويه طيا كاملا . بمعنى ان ما سبق وسيق وقررناه في شان انطولوجيا اللعب قد يكون فقط حدا وسطا في لغة المنطق فاللعب كما قررناه لا يخضع الى اية سلطة ولكن ايضا في الوقت نفسه لا يسري عليه اي قانون من خارج حيزه ، أي انه في انفلاته من السلطة العامة فانه يخضع لسلطة ذاتية فوقية تخصه هو ، واضيف انا الان، ان اللعب فعل لا يسري عليه أي قانون من خارج حيزه وايضا اللعب لا تسري قواعده خارج حيزه هو ايضا.
يبدو اننا انطلقنا من رؤية بسيطة للعب ونجد انفسنا الان بصدد تعريف اكثر عمقا وتعقيدا
لنعد الى التعريف دائما ونعيد طرح معنى اللعب من جديد بناء على الخلاصات الاولية، لكي نتقدم قليلا في التحليل
ماهو اللعب ؟ اللعب اذن هو مجموعة قواعد تنظم سلوكا مصطنعا : يعني أن اللعب ليس فعلا طبيعيا بل هو فعل يحاكي الطبيعة اذ يتوسل مضمراتها الأولية المبثوثة والثاوية في الأفعال الفطرية ، المتضمنة لأفعال المشاحنة والمكالبة والمساواة والممانعة و التقدم والإقصاء والغلبة. وهو أي اللعب ينظم سلوكا مصطنعا خالصا، ولكنه في نفس الوقت كذلك يرتكز الى مادة مصطنعة بدورها لا تأخد معناها ودلالتها الا في حيز اللعب.
اعني بالمادة هنا وسيلة اللعب كرة مثلا، وكذلك هدف اللعب جعل كرة في شباك
واللعب كذلك ذروة الانسلاخ عن الطبيعة وغايته اذ يتخلى البشر في لعبهم عن كل ما تضعه الطبيعة في الأشياء والحركات من دلالات قاهرة. أي هو تجاوز لكل العلاقات ودلالاتها الطبيعية فاثناء اللعب نتجاوز علاقات القرابة ، لا يعود ابوك اباك ، العلاقات الاجتماعية الهرمية استاذك استاذك ، العلاقات المبنية على السلطة الهرمية داخل العمل مثلا . اذن فاللعب انسلاخ مضاعف لانه لا يقتصر على التنكب لما تمليه الطبيعة بل يتعداه الى التنكب لما تصوغه العلاقات الاجتماعية ” السياسية و الثقافية والمهنية” من ضوابط ومعاني وسبل استخدام.
اي ان اللعب يحور ” في انسلاخه المزدوج” دلالة العناصر الطبيعية والاجتماعية معا. ويضفي هذا التحوير على الحركات والأشياء معان جديدة مختلفة لا تمت بصلة إلى شيء آخر غير قواعد اللعب نفسها.
فاللعب في جوهره اذن هو هدم للعلاقات الانسانية الاولية كما يمليها المجتمع والطبيعة، وهو في نفس الوقت صياغة لعلاقات جديدة تنشئها قواعد اللعب و اغراض اللعب وعلاقاتها وادوار اللاعبين .
ان صح ما ذهبنا اليه هنا فاللعب ثقافة خالصة. بل انه في تقديري ذروة الثقافة . وهذا مما يجعل من اللعب نظير السلطة و قرينها. كيف ذلك
فالسلطة تتفرد وتضطلع بدور تسوية المجتمع مجتمعا تاريخيا، وبتنضيده مستويات متراصة متفاوتة المقامات والبناء، عبر وضع اسس منسلخة عن الطبيعة، فنحن جميعا نعرف ان الدولة بناء اجتماعي مصطنع برز في شروط تاريخية متاخرة من الوجود البشري لكن ظهورها أعاد صياغة المجتمع صياغة جديدة ، تقوم سلطة الدولة بتنظيم المجتمع وتنافراته وعلاقاته وأسسه وانقساماته في إطار قواعد قانونية عامة صارمة فهي تخرج بالمجتمع من طور الطبيعة الى طور الاصطناع . فالسلطة انسلاخ عن الطبيعة وما مراتبيتها التي تقوم منها مقام الاساس الا تجسيم هذا الانسلاخ وتقنينه الظاهر .
هنا بالضبط يستوي اللعب والسلطة فكلاهما يستويان في انسلاخهما عن الطبيعة و بالتالي في خضوعهما للادب والتقنين . بذا يكون اللعب فعلا ثقافيا في المصف الاول : انه قرينة انتماء الى مرتبة او طبقة قادرة على التعالي على الضوابط الطبيعية والاجتماعية اي الى مرتبة بوسعها ضبط العلاقات أنيا في إطار قواعد مصطنعة تمليها هي وتتقيد بها. وهي مسالة تحتاج الى وقت وتربية و دربة وطول مراس وتعود .
ان ما سبق يجعل من اللعب علاقة تقوم داخل طبقة اومجموعة بشرية ارتقت في عملية استوائها مجتمعا مواطنا. العامة والدهماء والغوغاء لا تلعب لانها مشدودة الى الجسد الطبيعي ، الى الشره والقتل حين المناكفة والاكل و الخوف . فهي عاجزة عن ان ترتقي الى الضبط والامساك اللذين يفترضهما اللعب ويقوم عليهما ويفرضهما القانون ضدا على النزوع الطبيعي . وما ينزع اللعب الى تحقيقه بسبل اخرى ، فاللعب عندما يرفع عن المشاركين ما يختص به المجتمع من مقامات واولويات ومراتب فانه لا يضع او يحط من مرتبة المشاركين ذوي الرتب لان هذا يرفع من معنى القانون و القواعد الى مصاف الشمول والمرجع الاعلى الذي لا يعلى عليه الأمر الذي يضع قواعد الرتب فوق الرتب نفسها ، مما يمجد في الحياة الطبيعية معنى القانون الضامن للتراتب ويؤيده.
تلتقي في اللعب عناصر تجعل منه تمرينا تربويا ان صح القول كاملا على المواطنة : فاللعب هو ذروة الثقافة بانسلاخه عن الطبيعة. وبتحويره لعناصرها ، وهو علاقة تقوم داخل طبقة وصلت في ترقيها المجتمعي و النفسي والثقافي الى مرحلة الانسلاخ التام عن الطبيعي و الفطري ، وهو اخيرا قرينة على وضع قواعد اللعب فوق اللعب نفسه، وفي الحيز المخصوص خصوصية حادة للعب لا يتجاوزه ولا يتطاول عليه ، فاللعب بهذا المعنى ضروري يصبح مدخلا من مداخل استواء الخلق بشرا، لذا فان المساواة بين اللاعبين وخضوعهم لقواعد اسمى ، توكيد للنظام ولاسسه، ومحاكاة مبكرة لما يقع خارج حيزه أي المجتمع .
وبهذا يكون اللعب احد العتبات والمداخل الاساسية للتربية على المواطنة من خلال الانضباط لقواعد تحد من الانزياح القابع في فطرة البشر وتليين السلوك بالامتثال لقواعد عامة تنظمه .