الكونتوار
قصة قصيرة :
الكونتوار
بقلم عبدالهادي بريويك
كان يقف متهالكا أمام ” الكونتوار” محتقن الوجه، كأس الخمرة بين يديه، فخد امرأة صبغته أشعة شمس غشت بسمرة لذيذة، مندهشا على الكرسي الحديدي الطويل، تكاد أعصابه تتحرر من سيطرته، فيرتجف الكأس في يده وكأنه هو الآخر، يريد أن ينفلت من بين أنامله المبتلة عرقا، شعر بألف يد تضغط على عنقه حتى يختنق حينما حاصرته الفتاة العارية الصدر، والذراعين بنظراتها، ود لو يفقأ عينيها فيرتاح.
نظراتها نفس، نفس النظرات التي حاصرته يوم رجوعه إلى منزله ليجد أخاه الأكبر، نسخة من صحيفة يومية بين يديه، زوجته وأمه وبنيتان صغيرتان، يوجهون إليه التهم في صمت بارد، خمسة وجوه خريفية اللون، كانت تغذيه بصمت قاتل.
أفتر ثغرها بابتسامة مجانية متعبة.
نادى:
– كأس أخرى:
– أريد أن أنعتق
شعر بشلل يلتهم لسانه فلم يستطع الكلام وأن يدافع عن نفسه. لماذا أنتم تنظرون إلي هكذا؟ أنا لست بظالم، أنا..لست بمجرم أو قاتل، أنا..فقط فاشل، هكذا مصير الكثيرين من أمثالي فارحموني.
أحس بحبات العرق تنزلق في تأن من على وجهه، فترسم خطوطا متشابكة، أزالها بحركة سريعة من يده اليمنى.
الأحلام ..كانت كثيرة وكبيرة، لذيذة رائعة تولد فيه القوة: الميدان قفزة أخرى إلى الأمام وميدان آخر شاسع وعريض للعمل، وللتجربة والممارسة..
” أسقني واشرب على أطلاله” وصلت مسمعيه نغماتها، بصوت مخمور، رفع رأسه ليبحلق في الوجوه المخمرة المتصببة عرقا، وجوه نعاج قرأ على سطحها هزيمته.
– الانعتاق
– متى تنفرج عني محارتي؟
عاد إلى كأسه يشرب، ويبحلق في الوجوه عله يجد في أحدها علامة مفرحة تنسيه ماضيه القريب..لامفر، الوجوه كانت تنكمش وتتمطط في حالات اللغط والبكاء والصراخ والضحك، والأجساد كانت قوائمها هشة رخوة ما تستطيع أن تحمل ثقل الرأس والصدر والبطن فتتمايل بها تمايل مركب على صفحة بحر هائج.
– متى أنعتق؟ أريد حياة جديدة..
التجأ بكليته إلى الفتاة الرابضة وراء” الكونتوار”، إلى عينيها الكحيلتين وصدرها الشامخ، وفمها الأرجواني الناضج، صدمته هزيمته، دفن وجهه بين يديه، أصابعه تصلبت على شعر رأسه.
– الانعتاق، الانعتاق، كلنا منهزمون..
– فحجرا عينيه تحولا فواهتي نار، فكه الأعلى انطبق في تشنج على الفك الأسفل، كمصاب بالصرع. نادت عنه صيحة نائم، استيقظ فجأة من حلم مرعب كاد يكتم أنفاسه. كانت العيون الضيقة بفعل السكر من حوله تنظر إليه، تتفرج عليه، أعجبتها حركاته وصرخته الجنونية، كان يشبه مغني البوب..ضرب بالكأس أرضية ” الكونتوار” اللامعة لتتحطم، انغرست بعض قطعها بين أصابعه، امتزجت الخمرة بالدم، نادت عن الفتاة بصرخة رعب، أمسكت يد قوية عليه من قفاه، وأخرى أدت الثمن من جيوبه ثم قذفت به إلى الشارع…أراد أن يعود إلى داخل البار ليقول لهم:
– ” اسألوا وجوهكم، السقوط يشوهها، ينهشها كالجذام فحاربوه”.
وكانت “لاراف” له بالمرصاد.