أن تسمع صوت فيروز بجبل لبنان في هذه الأيام التي تصادف عيد ميلادها الثمانين ، غير أن تسمعه بأي منطقة أخرى في العالم.
صوت لبنان بامتياز هو فيروز، تلك الأيقونة التي وحدت ، بأغانيها ، اللبنانيين في أيام الحرب الأهلية، والتي رفضت الغناء طيلة هذه الحرب حتى لا تحتسب على أحد، ما زالت توحدهم في أيام السلم وهم غارقون في “براثن” السياسة.
أغاني فيروز هي صوت من لا صوت له… في عيد ميلادها الثمانين ( 21 نونبر 1935)، وهي التي “اعتكفت” بجبلها، يستكان لترانيمها من أعالي “سيدة لبنان” (منطقة حريصة بالجبل).
قال عنها الكاتب والشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج، يوما، إن صوتها، “يشق لنا، في عصرنا المظلم ممر الضوء ويعيدنا أنقياء، يجعلنا نسترد النقاء لنكتشف، بقوة النقاء وحدها، كل ما يجمعنا بالينابيع الأصلية (…) كل ما يشدنا بعضا الى بعض “.
وفيروز ليست ملكا للبنانيين لوحدهم، إنها قصيدة غناها وعشقها المغربي كما المشرقي، وأغانيها رسائل تخاطب الوجدان، بعمقها الذي هو عمق الجذور العربية، وهي التي غنت للقدس “زهرة المدائن” ولمدن أخرى.
لقد غنت “ست الكل” كما يحلو للبنانيين أن يسموها، للجمال “نحنا و القمر جيران بيتو خلف تلالنا بيطلع من قبالنا يسمع الألحان”، وللتمسك بالوطن “بحبك يا لبنان” ضد الاغتراب والشتات. أغانيها ليست مجرد نصوص، بل وطنا يسكنه اللبنانيون بكثير من الشغف الشعري، لا فظاعة فيه ولا حروب ولا تطرف.
وصفها وزير الإعلام اللبناني رمزي جريج بأنها “أيقونة راسخة في ضمير كل لبناني وفي ذاكرة الوطن…إنها سفيرة لبنان الى النجوم والعمود السابع في هيكل بعلبك (منطقة أثرية بمدينة بعلبك) وأرزة شامخة شموخ أرز لبنان، لبنان الذي سيتغلب شعبه بإرادة وطنية جامعة على كل المحن”.
أما وزير الثقافة ريمون عريجي، فاعتبر أن لبنان “محظوظ” لأن فيروز التقت مع آل الرحباني “حتى أعطونا هذا الإبداع والجمال”.
لا صوت يعلو فوق صوتها هذه الأيام،وكل الأيام، عايدها المسلم قبل المسيحي، تربع اسمها على مواقع التواصل الاجتماعي وبالرغم من أن شموعا كثيرة أضيئت لفيروز في عيدها، إلا أنها، كما قال الفنان مارسيل خليفة في إحدى تغريداته ” أقل من الشموع التي أضاءتها قبل ثمانين سنة للعشاق، للحب، للحرية وللوطن “.
أغانيها تبث، كما دائما، على مدار الساعة بالإذاعات اللبنانية وخصصت لها وسائل الإعلام المكتوبة ملفات… يسمع اللبنانيون فيروز ويتأسفون على الزمن الجميل …أيام الألحان التي تلامس الأحاسيس، ألحان الرحابنة عاصي ومنصور.
واحتفت صحيفة (السفير) ب”جارة القمر”، بطريقتها، إذ فتحت ملفا، استقبلت فيه وما زالت كتابات ومقالات عنها، تحت عنوان “ثمانون فيروز …تقع النجوم ولا ينتهي الحب”.
وقالت في تقديمها للملف “إن فيروز “حاضرة، ومقيمة، ولم تنس لكي تستعاد، نحتفي بها لنقول كم أننا محظوظون لنسبتنا إلى عصرها، لنقول إنها مواساة لكل القلوب المكسورة في زمن الانهيارات، وإنها رغم الحزن المقيم، تصنع ساعات فرحنا القليلة”.
غنت فيروز في وقت لم تكن تصنع فيه النجوم فرقعات، وسمعت ورددت أغانيها، لأن فيها روح. يردد معظم اللبنانيين، في جلساتهم الخاصة، “فيروز في عيوننا”.
يقول صاحب تاكسي، وكلمات أغنية ” دخلك يا طير الوروار رح لك من صوبهن مشوار…وسلم لي عالحبايب وخبرني بحالهن شو صار” تنبعث من المذياع، “هذا هو لبنان”، ويتساءل ، “ألا تتفق معي”، موجها كلامه لراكب يبدو عليه أنه سرح مع ذكريات لا تنسى وهو يحدق النظر في الجبال وفي أشجار الأرز على مرمى البصر.
في هذه اللحظات، لا يعرف الراكب لماذا تذكر فجأة كلمات لمحمود درويش التي وصف فيها فيروز بأنها “الأغنية التي تنسى، دائما، أن تكبر هي التي تجعل الصحراء أصغر وتجعل القمر أكبر”.
صدق محمود درويش كما صدق نزار قباني الذي قال يوما بأن فيروز ” رسالة حب من كوكب آخر”.
“يا طير يا طاير على طراف الدني لو فيك تحكي للحبايب شو بني”، تقول كلمات إحدى أغاني فيروز، التي صمتت عن الغناء منذ فترة طويلة، إلا أن صوتها، يرن في كل الآذان، ويردد “لو كان قلبي معي ما أخترت غيركم ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا”.
تعددت ألقاب نهاد رزق وديع حداد (فيروز) إلا أنها تبقى “الصوت الملائكي”، التي قدمت مع الأخوين الرحباني عاصي ومنصور أجمل الأعمال الغنائية والمسرحية التي تجاوزت شهرتها لبنان.
وبالإضافة الى الأخوين الرحباني غنت فيروز لشعراء كبار من أمثال ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، وأحمد شوقي وغيرهم.
وأجمل هدية يهديها اللبنانيون، واحتفالات رأس السنة على الأبواب، هي كلماتها بالذات “ليلة عيد..و ناس صوت جراس عم بترن بعيد…”، لتبقى فيروز شامخة شموخ جبال لبنان.
وتكريما لفيرز قررت بلدية بيروت، تحويل المنزل الذي نشأت وترعرعت فيه إلى متحف، وذلك بعد صدور مرسوم حكومي يجيز للبلدية تملك المبنى وتحويله إلى متحف خاص بأعمالها.
ويقع البيت، الذي كان مهددا في السابق بالهدم، في منطقة زقاق البلاط ببيروت، وهو الذي قضت فيه فيروز فترة طفولتها وصباها منذ الثلاثينات
احمد بوشاوري
ومع