د خالد فتحي… يوسف زيدان …الرواية لقاحا ضد الفرقة والنكبات
د خالد فتحي
كاتب مغربي استاذ بكلية الطب بالرباط
يوسف زيدان …الرواية لقاحا ضد الفرقة والنكبات.
عاد يوسف زيدان بروايته “حاكم” ليطرق مرة أخرى موضوعات قديمة جديدة أرقت العالم الإسلامي منذ بواكيره الأولى، كمسألة الحكم ،ومسألة الصراع السني الشيعي ، واختلاف تفاعل المذاهب والأديان بين التعايش المفضي إلى الاستقرار والنهضات والتقاتل المورث للتخلف والحروب والنكبات، حيث يستنطق من خلال الأحداث المتخيلة الفترة الفاطمية، وما ماجت به من صراعات و اضطرابات، عارضا سيرة موضوعية لحاكم ” ادعت” الروايات التاريخيةانه كان مجنونا غريب الأطوار ،ولوعا بالقتل وسفك الدماء ، وعالم ادعى الجنون صادفا معا عالما إسلاميا فاقدا للصواب تعيث فيه الانقسامات المذهبية آنذاك تعصبا و تطرفا وارهابا .
لعل أول غرض للكاتب والمؤرخ يوسف زيدان من “حاكم” هو بعث قضية عزيزة على قلبه و على قلمه لأجل البسط والنقاش الناجم عنهما التصحيح وحسن التقييم، فهو لاينفك منذ زمن يحض على إنصاف الدولة الفاطمية ،ومسح الغبار عن تاريخها، وخصوصا عن فترة الحاكم بأمر الله، الذي قد تكون سمعته تعرضت للتشويه والتشنيع والتحريف، على أيدي الأيوبيين والمماليك على اعتبار أن التاريخ يكتبه دوما المنتصرون، وبالتالي فهذه الرواية إعمال زيداني للنظر في الخبر كما قال ابن خلدون ،ففيها ترميم لصورة هذا الخليفة قد وصل أحيانا بقوة السرد و روعة الوصف إلى اعادة بناء جديدة لهذه الشخصية المثيرة للجدل في المخيال العربي الإسلامي بل إلى” تبرير” أفعاله التي بدت كلها “ضرورية” لأجل الغاية السامية التي كان ينشدها حاكم يجوب القفار فوق الحمار وينظر في الرقاع بنفسه قاصدا أن يحكم الشعب بالعدل و وقوف الدولة إلى جانب الضعفاء و المظلومين منه، هذه الرواية الزيدانية تحاول أن تنصف خلافة شيعية تمكنت على شيعيتها أن تحكم و تتعايش مع شعب سني في زمن صعب ودقيق كان يغلي كالمرجل بالفتن والنعرات الطائفية والمذهبية. خلافة ، تربص بها متربصون كثر خلال قيامها لهدمها وبعد زوالها لهدم تاريخها: القرامطة،الروم،العباسيون ،الحشاشون، والايوبيون ..الخ، فطمست أغلب منجزاتها حتى أن الأزهر الذي اسسته ذراعا دعواتيا لمذهبها أغلق ثم حول لمنارة سنية تشع على كامل العالم الإسلامي.
وكما عودنا هذا الروائي الفخم من خلال كل أعماله الأدبية، تطل علينا معه من روايته أيضا كل عباءاته الأخرى ليس كمفكر، و كفيلسوف فقط، ولكن ايضا كمؤرخ، وكمنقب لايكل في كنوز المخطوطات ونفائسها، وكمهووس ذاع عنه شقاءه اللذيذ في تجلية التراث وتخليصه من الشوائب والزوائد الإيديولوجية والمذهبية .
زيدان ذو اللغة العربية الجزلة الفصيحة المتفردة ، و مالك الأسلوب المنساب الرائق الذي يدل على بصمة الكتابة الأنيقة لدى صاحبه ، ينجح كعادته في هذا المتن الروائي بسجعه الرقراق في جعل ترنيمته تختلف من صفحات لأخريات بحسب المرحلة التاريخية التي يوصفها او التي هو بصددها، فيبهرنا بالسلاسة التي يذوب بها في شخوص حكيه، و باليسر الذي لا ينال قياده سوى القصاصون الدهاة ، الذي ينزل به إلى باحة التاريخ لكي يصف لنا العصر الذي يكتب عنه بجغرافيته ومدنه وصعيده ومعماره ولغته ووضع المرأة وألبسة الناس فيه ناثرا امامنا كل اريج المرحلة الزمنية التي يقف بنا عندها، حتى لأن الرواية تستحيل في خيالك، وانت تقرأها ،فيلما سينمائيا تتبدى لك فيه ادق تفاصيل وتقاسيم الوجوه، بل و تغوص بك حتى في خبايا و لواعج و دواخل النفوس .
يدعونا زيدان من خلال خطاطة “مفترضة ” عثر عليها راضي، الطالب الجامعي، القادم الى القاهرة محملا بكل موروثاته المحافظة من قريته بالريف المصري ، و الباحث في الجامعة عن مستقبل ينقذه من الضياع وقلة القيمة ، إلى عدم الازورار عن ثراتنا أو اقتراف خطيئة إهماله و ركنه بعيدا عن نظر الشعوب المسلمة، فلربما
يكون هو البلسم الشافي لأدوائنا وجراحنا العميقة، إذا ما تلقفته و تمعنته عين فاحصة حانية نافذة، ففصلت وفرقت فيه الغث عن السمين ،وانتقت منه مايلهم في الإجابة عن الأسئلة الوجودية التي تعركنا هذه الأيام. اليس موضوع رسالة بحث راضي لنيل الشهادة العلمية خطاطة قد عكرتها وعلتها الاتربة لم يكن أحد يعيرها اهتماما داخل ذاك البيت العتيق بالقرية المغمورة؟؟؟.
زيدان بخطاطته البديعة تلك يستنفر المفكرين والكتاب وذوي الرأي والحصافة برواية ذات عمق تاريخي وحضاري، لأجل ان يهبوا لدرس الثراث ليس بالتمجيد والتطبيل والتضليل، وإنما بالتمحيص والتدقيق والتسهيل، وبعد ذلك إعمال قياس من نوع آخر، نحن أحوج ما نكون اليه، يخرجنا مما نتجرعه من هزائم ومرارات وخيبات .
قياس أزمات الحاضر على احوال الماضي، لأجل الاجتهاد بشكل صحيح وتفادي عيش المآسي القديمة من جديد. فالمؤمنون لايلدغون من الجحر مرتين؟ فكيف وهم يلدغون الآن مرات ومرات!! .
يخلق زيدان شخصياته خلقا لتنوب عنه في قول كل شيء يريده، كأنما استدعيت وجيء بها لتروي اعماله الفكرية ،أو لينقلنا بها من طور التجريد للافكار التي تزخر بها محاضراته إلى طور التجسيد لها، فيدلل على إمكانية التطبيق، بل هو يومئ لنا أن قد طبقت بالفعل، وأنه لايجدر بنا سوى التأسي والاعتبار،وبعد ذلك التصميم على رمي المعوقات في سلة المهملات،وعدم فتح ماكان يجب أن يكون مع الأجداد.
لقد تمكن هذا الأديب المحنك الجهبيذ أن ينحت ابطاله نحتا مدهشا… أن يرسمهم بفنية وإتقان ، فيصبهم بحبكة الروائي و بصيرة المفكر وحياد المؤرخ في القالب الذي يحيلهم قادرين على السفر من الماضي إلى الحاضر لعلهم يجترحون لنا الحلول ويفتحون لبلداننا الآفاق الرحبة الواجبة . هو يقدم امثلة على أن لا مستقبل وضاء لنا أن لم ننطلق من الماضي، ونصفي تناقضاته ،ونعلن موت النزاعات القديمة.ولذلك هو ينبش في هذا الماضي بنوعيه المحفز والمعيق .و يؤمن بأنه يجب علينا أن نعود إلى الأحداث، لنقرأ الوقائع ،ونحل الإشكاليات العالقة باستخدام العقل، لان اعتيادها، والبقاء مرابطين عندها ،مع تجاهلها فلسفيا والقعود عن الخوض فيها فكريا ،سيفاقمها، ويراكمها، ويبقينا بالتالي جامدين متكلسين ومحنطين بداخل شرنقتها الخانقة ، كما ان القطيعة التامة مع الأحداث التاريخية، وتجاهل الجينات اللصيقة والقابعة فينا، لايعنيان شيئا آخر سوى فقدان البوصلة، و تأبيد التيه، و التطبيع مع الضياع الحضاري والديني إلى ما لا نهاية.
يستعين زيدان بمطيع السهمي بطل الرواية الرئيس ، ويجعل منه حفيدا للفاتح عمرو بن العاص،و الذي سيصبح الرفيق الأقرب للحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي الإسماعيلي حفيد فاطمة الزهراء بنت الرسول صلعم. كأنه يشير إلى أن الصراع الشيعي السني قد انتهى منذ زمن سحيق بهذه الرفقة الرمزية بين حفيد علي وحفيد عمرو التي خلصت الأبناء من حزازات الآباء بعد أقل من أربعة قرون من اندلاعها، فكيف يحييه البعض منا بعد أربعة عشرة قرنا؟؟.
هذا هو السؤال المحير والمضمر في الرواية الذي يقض في الحقيقة كامل رؤية زيدان ومشروعه الفكري.كيف تتحكم فينا إلى الآن خلافات الأسلاف ؟؟،لماذا لانزال نعيش في الماضي أسرى تقاطبات كانت لزمنها؟؟ لماذا يتعثر الخلاص من هذا التوتر التاريخي حتى أنه لايطوى إلا ليفتح من جديد ؟؟ .
فمطيع ، هو هذا الطفل الذي سيرسله جده أحد أعيان السنة بمصر للدراسة مع الأمير شريطة أن لايشاركه في دروس المذهب الاسماعيلي التي ستخصص فقط للحاكم المقبل .
ليعطي الطفلان منصور ومطيع وهما لايزالان على الفطرة دليلا على أن الفصل بين ماهو مذهبي يتعلق بالقناعات الخاصة و بين مايعود إلى الشأن العام أمر كان ممكنا و قد انتبه له منذ عهود الاجداد .هو منجز يبنى من خلال الثقافة،و يمكن تشربه عبر التربية الاولى، لكأنه ينبه بذلك إلى حيوية إحلال مدنية التعليم في المدارس والجامعات كسبيل ناجع للتربية على المواطنة، فما سيجمع بين الخليفة ومطيع بعد تسلم منصور الحكم هو المواطنة التي ستجعل صداقتهما تعلو على التقسيم المذهبي.
هكذا يبدو يوسف زيدان كما لو أنه يبدع رواية للحاضر من خلال التاريخ. هو يملي النظر في الفتن الحالية ،فيسرف في الصراحة والبرجماتية ليرى أن الحل لها قد يكون الآن، وفي هذه المرحلة في حكم “المستبد العادل” الذي يعرف كيف يتخلص من البطانة الفاسدة التي تجور على الناس مثلما
اعدم قد الحاكم كلا من ارجوان مرافقه الشخصي، ومحتسبه ابن أبي نجدة، ومؤدبه الفارقي، وحامل المظلة زيدان لتعاليهم، وطغيانهم، ونهبهم للمال العام، وافتئاتهم على حقوق العامة والمساكين .
الحاكم الذي سيجنب الأمة كذلك تبعات وويلات كل أولئك الذين يستثمرون في الاختلاف المذهبي او العقدي فيحولونه بسرعة إلى احتراب ثم فيما بعد إلى خراب.
حين يستدعى زيدان ابن الهيثم لروايته يكون ذلك بعد أهوال وخطوب مر بها الحاكم، كأنه يمهد بذلك للقول بأن تطور العلوم يأتي بعد استتباب الأمن وتنحية الخلافات المذهبية ، ثم يكون أن يكلف زيدان مطيع أيضا بالسهر على احوال ابن الهيثم ومتطلباته تنفيذا لأوامر القائم بأمر الله.ابن الهيثم هذا الذي سيقترح سدا في النوبة، قد يكون تنبأ منذ زمن بعيد بمشكلة سد النهضة الأثيوبي التي تؤرق بال مصر اليوم .
ولذلك يوحي زيدان أن العلماء هم صمام الأمان الحقيقي للأمم، هم القارئون للمستقبل، المحذرون من المخاطر القادمة، صانعو العظمة الحقيقية التي تحيى بها الشعوب .إذ هاهي النبوءة العلمية تتحقق بعد ألف عام، اليس العلماء هم ورثة الانبياء الذين يقرأون الغيب الدنيوي الذي نسميه علم المستقبل؟؟. لم يلق ابن الهيثم نفس المصير المفجع للفاسدين. ربما لأنه كان يلقى دعم ست الملك الأنثى القوية في البلاط، والتي بالمناسبة قد
هيأت في نظري مصر لتقبل بشجرة الدر الحاكمة المملوكية .وهنا أقترح على يوسف زيدان أن يستمر في سلسلته الروائية هاته بأن يحكي قصة عالم وفقيه و صوفي هو العز بن عبد السلام الذي عاصر بداية حكم المماليك المليء أيضا بالاضطرابات والتحديات.
تلك مرحلة مفصلية تحتاج أيضا للاستقرار والاستنباط من مفكر مثله لايعدم وسائل الإبداع.
لقد أنقذ ابن الهيثم نفسه بالأصح لأنه ادعى الجنون ليفلت ليس من عقاب الحاكم بأمر الله .وانما ليتناغم مع سياسة الدولة في معاقبة كل المقصرين، حيث أن المجانين لايقام عليهم الحد.
وما كان للحاكم أن ينتقم من عالم اجتهد فأخطأوجن فوق ذلك. عالم قد أنذر أمته قبل ألف عام.
واخيرا ماأبلغ هذا التعبير في حلم مطيع كما ورد في رواية يوسف زيدان ” تراني في حفرة سحيقة…ليس معي فيها إلا منصور الحاكم يقتلني بسيف قديم صدئ وأقتله بحربة، ونحيا ثانية بعد حين، فنتطاعن ونموت مجددا ثم نحيا ونموت..ولايهلكنا الدهر.”.
هذه الجمل تلخص كل المراد إيصاله، فتاويل هذه الرؤيا أن الحفرة السحيقة هي الخلاف الشيعي السني المزمن. والسيف الصدئ بيد منصور الحاكم، والحربة بيد مطيع، إشارة إلى أن الحزبين يقتتلان بسبب أفكار
ومعتقدات بالية جدا كان لها أن لا تثار من طرف الأمم الراقية. اما منصور ومطيع اللذان يموتان ويبعثان من جديد ، فهذه كناية عن أن لا فائدة من الاقتتال لأن الكل فيه قاتل ومقتول، وتنبيه إلى آفة التجدد الدائم لهذا الخلاف الذي للأسف استعصى هلاكه حتى على الدهر إذ لايعدم متعهدين و أحفادا جددا لإيقاظه .
نتمنى أخيرا أن تنجح الرواية في بلاد العرب والمسلمين فيما فشلت فيه السياسة .ويبلغ الروائيون ما يرجونه من هذا الوعظ الأدبي الهادف للشعوب و للأنظمة علها ترعوي وترشد .
فمثل هذه اللقاحات الفكرية هي من ضمن مانحتاجه حقيقة للخلاص من هذه الفرقة التي لم تكف أبدا عن التحور منذ اندلعت ذات زمن بين علي ومعاوية وبن العاص جد مطيع وراضي بطلا رواية حاكم ، فاستمرت إلى اليوم تودي إلى النكبات.
كاتب مغربي استاذ بكلية الطب بالرباط