المريزق يكتب: الخط السياسي الذي نريد
على أبواب المؤتمر الثالث لحزب الأصالة و المعاصرة:
الخط السياسي الذي نريد
المريزق المصطفى/ فاعل سياسي
إن الحديث عن الخط السياسي في حزب الأصالة و المعاصرة – و لو في صيغة “بذور”- هو أمر ليس سهلا، و يحتاج لجرأة في منتهاها. و السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي الحاجة التي تدعونا اليوم لاحتضان مثل هذا النقاش و نحن على أبواب المؤتمر الوطني الثالث؟
الجواب يستدعي من دون شك البحث في أصول الإيديولوجيات الحزبية التي عرفتها كل الأحزاب التي نصنفها في خانة الأحزاب ذات ” الوثيقة المرجعية”. لكن أية مكانة يحتلها اليوم الجدل الإيديولوجي ضمن دائرة اّلإنتاج الفلسفي المعاصر؟ و هل يوجد مثل هذا الجدل في حقلنا السياسي العام؟ أم أن ما يروجه له البعض لا يتعدى أن يكون لغوا فلسفيا و سطرا في حياة من يدعي ذلك؟
و بلغة الصراحة و الوضوح، يمكن القول أن الجدل الدائر في مجتمعنا لا يرقى فعلا للموضوعية و العلمية، و حتى إذا ما اعترفنا لهذا الجدل بالوجود، فهو لا يتجاوز سقف الجدل بين دعاة الإصلاح السلفي و الإصلاح الليبرالي، خاصة بعد انتكاسة الاختيار القومي و الاختيار الاشتراكي.
ربما، و في اعتقادنا المتواضع، إن المعضلة التاريخية الكبرى التي يشكو منها مجتمعنا، هي معضلة التأخر الشامل و ضرورة التفكير في أشكال التقدم و النهضة.
لقد استمعت للعديد من الشباب في مناسبات متعددة، و السؤال الجوهري الذي طرحه هؤلاء بكل قوة، هو سؤال المواطنة. و حينما طالبتهم بالوضوح أكثر، جاءت مطالبهم على الشكل التالي: ” نريد المساهمة في صنع و اتخاذ القرارات، نريد الصفة القانونية لحقوق الإنسان، نريد من الفاعلين السياسيين أن يفرقوا بين المواطنة كسلوك و بين الوطنية كقيمة اجتماعية، نريد الشفافية في كل القرارات المتعلقة بالتغيرات الاجتماعية و الاقتصادية، نريد ربط المسؤولية بالمحاسبة و المعاقبة، نريد صيانة الحقوق الفردية و تكافؤ الفرص و المساواة أمام العدالة، نريد مغرب تعدد الثقافات”. هذا ما طرحه هؤلاء الشباب!
و نحن على أبواب المؤتمر الثالث لحزب الأصالة و المعاصرة، ما هو الجواب الصحيح عن هذه الأسئلة التي تواجهنا في الممارسة اليومية؟ أو ما هي الشروط المتوفرة لدينا للجواب عن هذه الأسئلة؟
لن ننغمس هنا و الآن في الحديث عن الهيمنة الاستعمارية و زمانية استمرار التأخر، نريد أن نصرف انتباهنا عن هذه الإشكالية الموروثة لنتجه صوب مساهمة تغني الجدل حول سؤال الخط السياسي لحزب الأصالة و المعاصرة و تطويره بعيدا عن أي نزعة ذاتية أو شوفينية أو مصلحية، أو تصفية حسابات شخصية.
في كتابه “العرب و الفكر التاريخي”، يطرح عبد الله العروي السؤال التالي: “هل نتمكن من إنجاز كل التغيرات التي نحن مطالبون بانجازها إذا لم نراهن على العقلانية اليوم، رغم تراجع الغرب و رغم التحفظات النظرية التي يمكن أن توجه إلى العقلانية كفلسفة”.
يقول العارفون في علم الفضاء، إن في كل نجم ثقبا أسود تتكاثف فيه الجاذبية بحيث تنصهر المادة وسطه فيصبح مثل البالوعة التي تبتلع بالتدريج مادة ذلك النجم مهما بلغ حجمه. و هذا ما يجعلنا نقول أن مشكلتنا تكمن في عدم اعترافنا بالتراكم، تراكم التجربة السياسية، تراكم التجربة التنظيمية، تراكم التجربة النضالية، تراكم المعرفة و النضج السياسي، الخ. و عدم تشجيع البناء والتضامن و الوحدة و التعاون و التعايش، و احتقار كل من يختلف معنا، والافتقار إلى الإخلاص و الانضباط.
و لهذا يجب أن يعلم كل من يدعي “النبوة”، أنه ليس علة كافية لتفسير ما آلت إليه أوضاعنا. فالنقط السوداء التي تنخر كياننا، لا يمكن الجواب عنها بأي نوع من اللغو اللغوي.
إن سؤال المذاهب السياسية اليوم، يطرح أكثر من سؤال بعد التحولات الثورية العميقة التي عرفها العالم منذ نهاية الثمانينات. و أن الليبرالية و الماركسية، كلاهما يمثل طوبى (بلغة عبد الله العروي) بالمقارنة بالنظرية المتعلقة بالدولة، كما أرسى قواعدها هيغل. فالطوبى الليبرالية يراها عبد الله العروي واضحة لأنها تضع قوسين مسألة العنف لتحدد شرعية الدولة بمفهوم المصلحة الجماعية التي تمثل في رأيها مجموع المصالح الفردية. و الدولة الليبرالية يضيف العروي، هي إدارة الاقتصاد فقط. أما الطوبى الماركسية، فهي في نظره (العروي) لا تتعارض مع نظرة واقعية إلى الدولة الحالية، دولة العنف و الاستغلال الطبقيين. و هي تنتسب كليا للمجتمع الشيوعي المقبل.
و على مستوى الوطن العربي، يرى عبد الله العروي أن هذه المذاهب تلونت عند انتشارها بالطوبى التقليدية التي ترى في الدولة عالم القهر و الاستبداد، و هو ما يعترض كل مجهود أو اجتهاد يبحث عن مقاربة موضوعية لتجسيد الحرية في الدولة. و هنا يخلص العروي إلى أن دور الطوبى، في الماضي و الحاضر، ليست عقبة بذاتها، بل هي شرط الوعي بضرورة التغيير، و بالتالي يجب إدراكه كطوبى، أي كبرنامج عمل مطروح على الإنسان كإنسان، على النوع البشري في سيرورته التاريخية الطويلة. (عبد الله العروي: مفهوم الدولة).
و بالرجوع إلى جيل أسئلة الشباب التي استمعنا إليها بإمعان، علينا أن نختار الموقع الذي نتحدث منه: هل هو موقع القاضي و الحكم الواثق من تجرده و حياده إلا من صوت الضمير و حده. أم موقع من يدلي بدلوه من موقع المشارك، أي المتواطئ حتى العظم.
شخصيا، لا أستطيع أن أمسك بالمشروع بيد و أن أمسك بالمعيار باليد الأخرى، و أن أقرر في سهولة و بيسر بأن ما ينتجه و ما يبدعه من أتقاسم معهم المشروع يستجيبون جزئيا أو كليا أو لا يستجيبوا لموازين المعيار. و المعيار هو حزب الأصالة و المعاصرة منظورا إليه من خلال ما اختاره لنفسه من أهداف و غايات، على نحو ما قدمته كل وثائقه الصادرة عنه قبل آخر مشروع وثيقة المرجعية الفكرية و السياسية التي شرعت قواعد الحزب في مناقشتها في كل ربوع المملكة قبل عرضها في ورشات المؤتمر للاجتهاد في مضامينها و تطويرها.
و بالتالي، فإن أي جواب على الخط السياسي يستوجب أولا انضباط المناضل لتنظيمه و لقوانين حزبه و لآليات تدبير و تصريف مواقفه. و انضباط المناضل يتطلب تدريبا ميدانيا مستمرا شاقا و انتظاما و جهدا من أجل جعل تفكيره أداة مبدعة أكثر منها مجرد مستودع للمعرفة. و لهذا فإن الخط السياسي الذي نريد هو بالدرجة الأولى الالتزام بجمع و تقييم الأدلة و تقرير النتائج الملائمة و المنطقية. إن الانضباط للخط الذي نريد، هو – كذلك – غير الانضباط الذهني فقط، بل أيضا شخصية المناضل ككل.
نريد هنا أن نستحضر تراثنا المغربي الفكري و السياسي و الصمت البارز الذي لازال مستمرا حول ما سماه عبد الله العروي نفسه إرهاصات أولية حول مشروع إيديولوجي جديد، يتم التفكير فيه من أجل وضع إستراتيجية جديدة تتيح للمجتمع العربي (بشكل عام) امتلاك القوة و التقدم.
نعتقد، و نحن نتابع النقاش الصحي الذي تدور رحاه في الفضاء العمومي قبل المؤتمر بأيام قليلة، أننا مدعوون أكثر من أي وقت مضى إلى استحضار البعد الديمقراطي و الحداثي في التراث الفكري-الفلسفي المغربي، و في مقدمته كل ما أبدعه عبد الله العروي في ملامح مشروعه الإيديولوجي من تمييز بين الماركسية الموضوعية و الماركسية الذاتية في “الايدولوجيا العربية المعاصرة”، و بين ماركسية للتحليل و ماركسية للعمل في “العرب و الفكر التاريخي”؛ و ما أنتجه المرحوم الجابري في مشروعه “تكوين العقل العربي” و الذي يهدف إلى الكشف عن آلية التفكير العربي من أجل إبراز ميكانيزماتها و نظمها، و البرهنة القاطعة على ضرورة تجاوز ما يرتد في فكرنا الحالي إلى عصر التدوين الأول، و كل الأفكار و المذاهب التي ناقشها الراحل عبد الكبير الخطيبي في “النقد المزدوج” ليحاور العروي في إستراتيجية مخالفة انطلاقا من منظور فلسفي معين. و هو الذي كرس جل حياته مناضلا تجاه هموم و أوجاع المجتمع، مركزا على الاهتمام الهامشي و المهمش في التراث و المجتمع و السياسة، و كان يتوخى خلخلة متواصلة للمكبوت في التراث و في المعاصرة.
إن المقصود هنا (في هذا المقال) هو التنبيه إلى أن المشروع السياسي لأي حزب يحتاج إلى مجهود جماعي، و إلى نكران الذات بين حملة المشروع. و أن مشروع وثيقة المرجعية الفكرية و السياسية المقدمة للمؤتمر الثالث لحزب الأصالة و المعاصرة، هي وثيقة تتضمن مقاربات موضوعية للواقع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي في المغرب، كما تتضمن محاور عامة تعكس خط الحزب و سياسته و مواقفه من أجل مغرب المستقبل، مغرب الشفافية و الحريات و العدالة الاجتماعية.
إن حزب الأصالة و المعاصرة يمر اليوم بمرحلة من أدق مراحل تطوره وأشدها خطراً على مستقبله. بل وجوده ككيان سياسي يفرض مراحل انتقالية تتمثل في رسم مهام التحرر الوطني و التحرر الاجتماعي و التغيير الديمقراطي، و هي من مهام القيادة المقبلة التي يجب أن تضع نصب أعينها ثالوث “المدرسة و الشباب و النساء” و الاستفادة من كفاءات مغاربة العالم و الاهتمام بالإنسان المغربي كمواطن و صيانة كرامته و تحصين حرياته.
بناء على ما سبق، يمكن القول إن وراء مشروع وثيقة المرجعية الفكرية و السياسية لحزب الأصالة و المعاصرة حرقة الأسئلة المتمخضة عن تجارب سياسية داخل المغرب و خارجه، و مقاربة تاريخية لإستراتيجيات نظرية و عملية محددة، في ضل الوضع المختل لقوى اليسار و التقدم. لهذا كان لابد من الإشادة بالجهد المبذول في تحليل الوضع المغربي على نحو ملموس، و التنويه الايجابي بالمجهود الذي تضمنته كل لجان اللجنة التحضيرية.
10:33
المؤتمر الوطني الثالث لحزب الأصالة و المعاصرة:
سؤال “المدينة و الهجرة و حقوق الإنسان”
المريزق المصطفى/فاعل سياسي
مقال جديد..في طريقه إلى النشر