هل دقت ساعة محاربة الفساد؟!
هل دقت ساعة محاربة الفساد؟!
فور تلقي المواطنات والمواطنين المغاربة خبر القرار الصادر عن قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء صباح يوم الخميس 27 أبريل 2023 القاضي بإيداع وزير الوظيفة العمومية الأسبق والبرلماني عن حزب الحركة الشعبية محمد مبديع السجن المحلي “عكاشة” بعين السبع، عمت الفرحة قلوب الكثيرين، الذين تساءل بعضهم حول ما إذا كان الأمر حقيقة أم مجرد حلم؟ وهل أصبحت فعلا الإرادة السياسية لمحاربة الفساد متوفرة اليوم أكثر من ذي قبل؟
وتستمد هذه التساؤلات وغيرها مشروعيتها من كون المعني بالأمر محمد مبديع وغيره من المفسدين المنتشرين في الجماعات والبرلمان والحكومات المتعاقبة الذين قدمت ضدهم عديد الشكايات دون جدوى، وأنه كان منذ مدة موضوع تحقيقات أمام الفرقة الوطنية للشرطة القضائية على خلفية شبهة فساد وتبديد أموال عمومية تبعا لرئاسته جماعة الفقيه بن صالح لحوالي عقدين من الزمن.
والمثير للاستغراب أنه رغم انسحاب عدد من نواب فرق المعارضة احتجاجا على ترشحه المشبوه، انتخب يوم الإثنين 17 أبريل 2023 رئيسا للجنة “العدل والتشريع وحقوق الإنسان” بمجلس النواب بمجموع 250 صوتا من أصل 255 معبر عنها، مما شكل صدمة قوية في أوساط فعاليات المجتمع المدني وخاصة منها تلك المدافعة عن “حماية المال العام”، واعتبره الرافضون للتصويت عبثا سياسيا، لما يمثله من ازدراء للمؤسسة التشريعية وتكريسا لمعضلة الفساد.
ترى ما هي خلفيات اعتقال أحد “ديناصورات” الفساد بإقليم الفقيه بن صالح؟ فحسب المتوفر من المعطيات حول قضية مبديع الذي عاد لتقديم استقالته من رئاسة لجنة “العدل والتشريع وحقوق الإنسان” بعد مرور أيام قليلة فقط عن انتخابه، أنه وعلى إثر إجراء تحقيق معمق بشأن عدة تهم موجهة إليه حول “اختلاس وتبديد أموال عمومية والتزوير والرشوة والغدر واستغلال النفوذ وغيرها والمشاركة في ذلك” وبعد استنطاقه رفقة 12 متهما آخرين ابتدائيا أمام قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بمدينة الدار البيضاء، والتماس الوكيل العام للملك بذات المحكمة مساء يوم الأربعاء 26 أبريل 2023، قرر قاضي التحقيق إيداعه السجن إلى جانب ستة متهمين، وطالب الوكيل العام للملك باتخاذ تدابير المراقبة القضائية في حق الخمسة الآخرين المتابعين معه وأغلبهم من موظفي الجماعة المعنية، من خلال سحب جوازات سفرهم وإغلاق الحدود في وجههم..
فقبل إيداع المتهمين الرئيسيين السجن وفي مقدمتهم مبديع، كان القضاء المغربي قد أمر بفتح بحث قضائي ضده أجرته الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، بناء على شكوى سابقة تقدم بها خلال يناير 2020 فرع “الجمعية المغربية لحناية المال العام” بجهة الدار البيضاء.
وهو القرار الذي اعتبره رئيسها محمد الغلوسي جريئا، وخطوة أولى صوب تحقيق العدالة والتصدي لمختلف مظاهر الفساد والرشوة ونهب المال العام، مشددا على أن مثل هذه الجرائم الخطيرة تستلزم اتخاذ قرارات شجاعة وصارمة لمواجهة معضلة الفساد، واستهتار المفسدين ولصوص المال العام بكل المساطر القانونية والقيم الأخلاقية، داعيا إلى تطبيق القانون والمساواة دون انتقاء وتحقيق العدالة وتفعيل “ربط المسؤولية بالمحاسبة”.
وبالرغم من الارتياح الذي خلفه اعتقال الوزير الأسبق لدى الكثير من المواطنين في مختلف ربوع المملكة، لاسيما في ظل مسلسل غلاء الأسعار الملتهبة التي اكتوت بنيرانها الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وتنامي معدلات الفقر والبطالة وتفاقم الفساد وعدم التوزيع العادل للثروات، فإن هناك من يشكك في الأمر ويعتبره مجرد مسرحية هزيلة يراد من خلال فصولها إلهاء الشارع المغربي وامتصاص الغضب الشعبي، وهناك كذلك من يرى أنها لا تعدو أن تكون تصفية حسابات حزبية ضيقة ومحاولة إسكات بعض الأصوات المعارضة للحكومة.
ويشار إلى أن هذا الاعتقال الاحتياطي أعاد فتح النقاش حول استشراء الفساد، ومدى جدوى تقارير المجلس الأعلى للحسابات وغيره من مؤسسات الرقابة، خاصة أن دستور 2011 نص في عدد من بنوده على دعم كل الوسائل التي من شأنها تكريس قيم الشفافية والنزاهة والإنصاف والحكامة الجيدة ومكافحة كل مظاهر الفساد عبر ربط المسؤولية بالمحسبة، بما يساهم ليس في الحفاظ على الأموال والممتلكات العمومية وحسب، بل كذلك في تخليق الحياة العامة وترسيخ الثقة لدى المواطن والمؤسسات والهيئات العامة والمجتمع الدولي، فأين نحن من كل ذلك بعد مرور أزيد من عقد على إقرار الدستور؟
ثم علينا ألا ننسى كذلك أن الملك محمد السادس، وعيا منه بما لتفشي هذه الآفة من آثار وخيمة على البلاد والعباد، طالما دعا إلى ضرورة تكثيف الجهود من أجل الحد منها والقضاء عليها.
إذ بالعودة هنا إلى خطابه السامي الموجه إلى الأمة يوم السبت 30 يوليوز 2016 بمناسبة الذكرى 17 لعيد العرش المجيد، نجد أنه وبعد الكشف عن رغبته في أن يتمكن جميع المغاربة في القرى والمدن والمناطق المعزولة والبعيدة من العيش الكريم وراحة البال، يقول: إن “محاربة الفساد هي قضية الدولة والمجتمع، الدولة بمؤسساتها، من خلال تفعيل الآليات القانونية لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة، وتجريم كل مظاهرها للضرب بقوة على أيدي المفسدين”
إننا نتمنى صادقين أن يكون ملف مبديع ومن معه انطلاقة حقيقية نحو مكافحة الفساد بمختلف أشكاله، داعين إلى تطبيق القانون في حق كل من ثبت تورطه، في إطار محاكمة عادلة يحترم فيها القانون وقرينة البراءة دون التشهير بأي كان. ونطالب في ذات الوقت النيابة العامة بتحريك الدعوة العمومية تجاه ما تراكم من قضايا فساد مالي وإداري طوال السنوات الماضية.
اسماعيل الحلوتي