ناقشت ندوة بعنوان “سؤال الحداثة: منابته ومصاعبه ومفارقاته”، إشكاليات تحديد مفهوم الحداثة في المجتمعات العربية منذ بداياتها وحتى اليوم، بمشاركة كل من الباحث المغربي فريد الزاهي والباحث التونسي حمادي بن جاب الله.
أشار الباحث المغربي فريد الزاهي في مداخلته التي ألقاها في صالون جدل الثقافي بمقر مؤسسة “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث” بالرباط يومه السبت 21 فبراير (شباط) الجاري، إلى “المفارقة الكبرى التي تعيشها المجتمعات العربية، والتي مازالت إلى اليوم تسائل الحداثة، في الوقت الذي ارتحلت فيه الثقافة الفرنسية والأمريكية واليابانية مع مفاهيم جديدة من قبيل ما بعد الحداثة، والمجتمعات المركبة والمجتمعات المستقبلية والمجتمعات التكنولوجية وغيرها”، وذهب الدكتور فريد الزاهي في توضيحه ليرى بأن “صخرة الواقع السياسي جعلت النزوعات السياسية الحداثية ترتطم بها، فتترجم استراتيجياتها السياسية والمجتمعية إلى استراتيجية ثقافية حملتها مؤسسات ثقافية صار دورها يخبو شيئا فشيئا”.
ورأى الباحث المغربي الدكتور فريد الزاهي أن الحديث عن الحداثة لا زال أمراً عصياً، إذ إن مفهوم الحداثة أصبح أشبه بحصان طروادة يختبئ في أحشائه كل من استعصى عليه فهم تعقيداته وتشابكاته ومصائب ومآزق المجتمعات العربية المعاصرة، ورغم أن مفهوم الحداثة أصبح يلوكه كل حداثي بل وحتى أكثر الأصوليين أصولية.
وانطلق الزاهي في الإجابة عن “مفهوم الحداثة”، والذي لم يعتبره مفهوما بالمعنى الفكري بل اعتبره مقولة أكثر، من تساؤلات رئيسة أهمها، ماذا قدم لنا هذا المفهوم من الناحية السياسية والاستراتيجية والثقافية؟، وهل الحداثة مفهوم ثقافي أم هو مفهوم سياسي وفكري؟ وكيف يمكن أن نقرأه اليوم بعد ما الذي سمي “بالربيع العربي” والدويلات الإسلامية المتطرفة؟ ثم كيف نعيد صياغته على محك هذه الأسئلة كي يغدو إن أمكن ذلك مفهوما ناجعا ووجيها وقابلا لأن يغدو مفهوما قابلا للتفعيل؟ وهل بمقدورنا ذلك؟ وما الذي قدمه لنا مفهوم الحداثة؟ وهي أسئلة كثيرة تخلخل الصلابة المفترضة له، كما يوضح الباحث.
الزاهي: لا يمكن أن نسقط مفهوم الحداثة على مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية، لأنها تفتقد لمفهوم كوني، كما لأن لكل مجتمع مفهومه الخاص به، وهو ما أشار له ميشيل فوكو ولم ينتبه له كثيرونويجيب الزاهي بأننا “اليوم في أمس الحاجة لمواجهة المفهوم، وكل مواجهة هي حوار مباشر، بالتالي فإن مواجهة هذا المفهوم الذي استنبت في العالم العربي بشكل فعلي مجتمعي وسياسي، قبل أن يصبح مفهوماً ثقافياً، ثم صار مفهوماً ثقافياً واستراتيجياً بعد نكبة 67”.
ويضيف الزاهي أن “العلاقة التي ربطت المثقف الحداثي منذ الخمسينيات أهم مما نعيشه اليوم أو منذ السبعينيات والثمانينيات، لأن المثقف العربي في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات كان مفكرا وكان سياسيا في ذات الوقت، وكان فيلسوفا وكان فاعلا سياسيا، وكان منظرا وكان في الوقت نفسه موجها للمجتمع الذي يعيش فيه، وبعد نكبة 67 صار المثقف يعيش ثورته الثقافية كرد فعل على سقوط الأوهام التي أنتجتها الحكومات القومية ممثلة في الماركسية وغيره، ونحن اليوم نراهن على فرس خائب أي على مفهوم خائب، من ناحية أخرى في غياب حداثة سياسية، لأن كل الحكومات التي تعاقبت على الدول العربية ظلت حكومات عسكرية قمعية حداثتها كانت تتمثل في الجانب العسكري أكثر من الجانب السياسي والاجتماعي”، معتبراً أنه “في غياب الحداثة السياسية التي تفصل الدين عن الدولة وتحدث البنيات الاجتماعية وتثبت السيرورة الديمقراطية، أصبحت المنجزات التي كان يجب عليها أن تتحقق على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، تتحقق على المستوى الثقافي، فصار مفهوم الحداثة في هذا الانتقال le transfert أشبه بالشعار الفوقي يغذي أنانية المثقف ويحول الطابع السياسي إلى ضرب من الاستهانة السياسية”، وهنا يطرح الزاهي سؤالا آخر “لماذا لم نستطع أن نواجه التيارات الإسلامية؟”، ثم يجيب “هو ما يمكننا أن نفسره تاريخيا بأن نظام الحكم داخل التفكير السياسي الأصولي هو نظام بسيط جدا مبني على مجموعة من التراتبيات المعطاة سلفا بالتالي، فإنه لا يوجد هناك لا مجال للفكر ولا للنقاش، بالتالي فهو في الأخير نظام عسكري بشكل أو بآخر”.
ويضيف الباحث المغربي أن كل هذا يعني بوضوح أن “ما حققناه على المستوى الثقافي يتجاوز بكثير ما حققناه على المستوى السياسي، وهذا ربما بدأ في مراحل عدة منذ ظهور “مجلة شعر” وما كتب حول مفهوم الحداثة مع سعيد عقل ثم مع محمد بنيس في المغرب في أواسط السبعينيات، فصارت الحداثة شعارا ثقافيا قويا استطاع أن يخلخل البنيات التقليدية للشعر العربي وللثقافة العربية في الوقت الذي خاب فيه هذا المفهوم في المستوى السياسي، رغم أن الأصل في الحداثة أن تكون سياسية أولا. أما ما قمنا به، فهو الفصل بين الجانب السياسي والجانب الثقافي بخلق مفهومين، أو الحديث عن التحديث السياسي والمجتمعي والحداثة الثقافية، والحال أن هذه الفدلكة اللغوية حررت ومكنت المثقف من أن يكون نفسه كذات مستقلة عن المجتمع، والمفارقة كذلك هو أنه في الوقت الذي تطور فيه خطاب الحداثة على المستوى الثقافي، أصبحت خطابات الحداثة على المستوى السياسي (الخطاب الحداثي في السياسة يعني أن المثقف ينظّر، وأن السياسي ينظّر، وأن السياسي يخلق أحزابا ولكن في ظل حكومات تضم أحزابا وطنية ثورية تدعو للثورة ولا تدعو للإصلاح). لذلك، فإن الحركة الفلسطينية ومنذ الستينيات وحتى بداية التسعينيات أصبحت نموذجا للحداثة السياسية والفكر الحداثي السياسي”.
وانتقل الباحث المغربي للحديث عن مفهوم الحداثة عند العرب، الذي يراه “تبعية للفكر الغربي خصوصا عندما نتبنى المسار الثقافي والاجتماعي والسوسيولوجي الغربي، ما يجعلنا نعيش استعماراً من نوع جديد، وهذه ليست دعوة إلى الأصولية ولكنها دعوة إلى نقد العلاقة التطابقية والتماهي مع فكر يلزم أن يكون مصدرا لتطورنا الفكري لا محددا له، تماما كما وقع في اليابان في الشرق أو في أمريكا اللاتينية وغيرها”، ويتجلى ذلك، يضيف الزاهي، “في طريقة نقاشنا حول الحداثة التي ما زلنا فيها نجتر الطريقة التي بها طرحت مجموعة من القضايا منذ الخمسينيات، من عهد سلامة موسى أو حتى طه حسين، والحال أن هذا الانجراف انتبه إليه ثلاثة مفكرين منذ مدة، هم عبد الله العروي، والخطيبي وإدوارد سعيد، لكن الاهتمام لم يول إليهم”.
واعتبر الزاهي أيضاً أنه “لا يمكن أن نسقط مفهوماً كالحداثة أو الديمقراطية على مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية، لأنها تفتقد لمفهوم كوني، لأن لكل مجتمع مفهومه الخاص به، وهو ما أشار له ميشيل فوكو ولم ينتبه له كثيرون، من كون مفهوم الحداثة مفهوم جهوي la régionaliste de concept ، لذلك فإنني أستطيع أن أجازف وأقول بأن مفهوم الحداثة اليوم في مأزق لم يعرفه أبدا في تاريخيه، أولا لإخفاق الاصلاحات السياسية والاجتماعية في العالم العربي من الخمسينيات وإلى الآن، وأيضا لإخفاق ثورات الربيع العربي أو أغلبها، نظرا لإخراجها لغول الإسلام المتطرف من قمقمه، وكذا لتحجيم دور الأحزاب السياسية الوطنية التي لم يعد لها دور بعد انتقاله للنقابات”.
ويختم فريد الزاهي حديثه بالقول: “لا يمكننا في الوقت الراهن أن نخلق معرفة مجتمعية إذا لم نشجع البحث العلمي (السوسيولوجي، السيكولوجي، الأنثروبولوجي)، لأننا مجتمع مركب هجين ومعقد والظواهر التي يعيشها هي ظواهر سارت تؤثر في العالم، كما يلزم كذلك أن نهتم أيضا على مستوى البحث بدراسة الخطاب السياسي والفكر السياسي، لأننا لا زلنا في هذا المجال لا نمارس تواصلا سياسيا بين القادة وبين الشعب وبين الشعب وبين القادة، كما يلزم الاهتمام بعالم المعلومات الذي يؤثر فينا من غير أن نستطيع أن ندركه وعالم الصورة لأننا نعيشه، وهو الذي يخلق حياة وممارسات الأجيال الجديدة، ونحن نلاحظ أننا آخر جيل يهتم بالقراءة وبالنقاش، كما يجب علينا أن نخلق نقاشا سياسيا حقيقيا”.
من جانبه اعتبر الباحث التونسي حمادي بن جاب الله في مداخلته، أنه عندما “يتعلق الأمر بإشكال الحداثة، كونها مقولة وليست مفهوماً، يحتاج أن نحوله إلى مفهوم؛ أي إلى كلمة اصطلاحية مفهومة المعنى أو على الأقل واضحة المعنى، تماما كما في العلوم الرياضية، ومفاهيمها التي تستقيم في الذهن، حتى نقتدي بذلك في تعريف اقتراح ما يمكن أن تكون الحداثة، لأنه إذا لم نتوارع أو نتوافق على تعريف اصطلاحي افتراضي، فإن حديثنا سيكون في أشياء لا نتفق عليها”.
وعلى ذلك، يرى ابن جاب الله أنه يجب علينا أولا أن نقترح محددات الحداثة les déterminations كما سلف الذكر في الشكل الهندسي concept، وهي ذات المحددات التي نتعرف بها على شيء ما كيفما كان ليقال عنه أنه حديث، والتي تتمثل في ضرورة كونه منتصرا انتصارا كليا للحرية بمعناها المطلق، إذ ليست هناك حرية نسبية، ثم كونه يتسم بالعقلانية العلمية على النحو الذي قامت عليه عند العلماء المحدثين انطلاقا من كوبرنيك وما بعده”، ولذلك فهاتان القيمتان يضيف ابن جاب الله “لا يمكن أن يتوفرا في شعب ويبقى متخلفاً، إذ إنهما – القيمتان – لما يأخذان بناصية العلوم، فإن الأمة تصبح أمة قوية، بالإضافة كذلك لعنصر ثالث آخر يتجلى في القوة؛ أي القوة على مغالبة التخلف وأشكاله الثلاثة التي هي الفقر والجهل والمرض”.
وانتقد ابن جاب الله من يعتقدون بأن الحرية ليست شيئا جديدا بالقول إن “هذا صحيح، ولكن الحرية منذ حمورابي وقدماء الفراعنة حتى العصر الحديث، كانت تعني فقط ما هو نقيض للعبد، سواء عند العرب والمسلمين أو في الملة الإبراهيمية عامة المتمثلة في الديانات الأخرى، بمعنى أن الحرية تعني تلك المكانة الاجتماعية، بل وحتى المعتزلة بدورهم كانوا يرون بأن الحرية هي الاختيار في العلاقة العمودية للإنسان بربه. لذلك، فإننا عندما نعي الحرية باعتبارها جوهر الإنسانية، عندها نكون محدثين، لأنه وببساطة شديدة لا يمكن القول بأن الإنسان حر، ولكن الإنسان هو الحرية ذاتها، ولذلك فإننا نجد أن الإنسان وحده هو الذي يستعبد، ولا يمكننا أن نستعبر حيوانات أو غيرها”، ويضيف ابن جاب الله “أنه من غير العقلاني الحديث عن حرية الإنسان تماما كما في المنطق الهندسي الرياضي، لأن هذه مفاهيم متناقضة داخليا”.
ابن جاب الله: رغم قيام الحداثة على أركان العلم والحرية، إلا أنها أفرزت واقعاً مضاداً، وإلا، كيف نفسر هذا المد الاستعماري الذي أفرزته، وكيف نفسر تناقض أوروبا مع ذاتها وتناقض أوروبا مع الغير؟ويخلص ابن جاب الله إلى أن “الحداثة أنشئت بالتقاء الحضارتين العربية والغربية والتقاء العباقرة من ناحية أخرى، وهي ما خلفت في أوروبا ردة الفعل تجلت في سجن غاليلي حتى العمى والموت وتشريد ديكارت، وهي ردة الفعل التي شكلت المفارقة الأولى، والذي يحدث عندنا نحن اليوم أيضا عندما نتحدث عن الحداثيين بأنهم خونة بعد أربعة قرون مما حدث عند الأوروبيين، واصفين الحداثة بأنها نقيض الأصالة العربية الإسلامية، بل وتجاوزنا ذلك لدرجة أننا أصبحنا نبتلي شعوبا بأكملها على ما يفعله الحداثيون، وهذه المعركة في نظري لا بد لها أن تحسم في أحد الجانبين وأنا أرجح أنها ستنتصر للطرح الحداثي، لما به من قوة الحرية والعلم”.
ويضيف ابن جاب الله “فردة فعل أوروبا تجاه أبنائها العقلانيين كانت ردة فعل عنيفة وقاتلة ربما لأننا لم نتفطن إلى أن العلم تغير، ولأننا بقينا في موضع استهلاك العلم حتى إذا انتبهنا إلى أن هذا الاستهلاك الذي طال بنا منذ الاستعمار، فجاءت ردة فعلنا على نحو متأخروأما المفارقة الثانية، فتتجلى حسب ابن جاب الله في “كون الحداثة قائمة على أركان العلم والحرية فكيف نفسر أن في أوروبا كانت قوة الفعل قوية ضد أبنائها وثانيا كان المد الاستعماري، لأن المد الاستعماري هو نقيض الحرية على المستوى الشخصي وعلى مستوى الشعوب، إذ كيف نفسر تناقض أوروبا مع ذاتها وتناقض أوروبا مع الغير”.
واختتم ابن جاب الله مداخلته بالإشارة إلى أن الحداثة نشأت غريبة عند أهلها وما ألفوها، وهي الآن في طور النشأة والتمكن عندنا ولا بد أننا سنألفها غداً، ومن هذه المفارقات أن ندرك اتجاه الريح أو اتجاه التاريخ نحو الحرية، وقد انفجرت الحرية في شعوبنا ولا ريب ــ والتاريخ كله شاهد على ذلك ــ أنه متى تنفجر الحرية في صدور قوم لن تهدأ حتى تنتصب على مؤسساتها.