الوضع السياسي بالمغرب، وقهرية الترسبات السيكولوجية
من الطبيعي أن تتفاعل وسائل الإعلام مع كل مناسبة أو حدث غير مألوف، وفق الضرورة التي تحتّم ذلك وتستلزم مجارات كل سلوك إعلامي عالمي؛ لكن من زاوية أخرى يتغيّر المنظور وتتغيّر العدسة، فمن الغريب جدًا رؤية الإعلام المغربي، لا يمل في كل مناسبة من تركيز اهتماماته وصبّها في منحى ضرورة الانتخابات الحالية، باعتبارها معبرًا أساسيا للإصلاح والتنمية، وكدا تثمينًا لمسيرة نضالية سعت ولازالت تسعى للتطور و النهوض بمركّبات هذا الوطن …
من الغريب حقًا رؤية هذا، بالنسبة لمجموعة من المثقفين والعارفين بالشأن السياسي المغربي وما ترتب عنه من نتائج اجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها من المخلفات ذات الأصل السياسي…، بحيث أنّ هؤلاء المثقفين والعارفين، لازالوا يحملون نفس الأسئلة التي حملوها في كل مرحلة انتخابية رغم اختلاف الظروف، أسئلة لازالت عالقة بدهنهم تؤكد ديمومة الحضور، واستعصاء الحل، بل حتّى تعذّر الجواب النظري… وهذا يخبرنا بما مفاده، أنّ المشهد السياسي المغربي، هو مشهد ملغّم ومعقّد، ويتجاوز أي تحليل آلي أو تفسير منطقي… وقبل أن نبيّن طبيعة هذا المشهد أو بالأحرى نقرّبها – بشكل وصفي – دعونا نطرح أهم هذه الأسئلة، ونضيف عليها سؤالاً مما استجد تبعًا لضرورات زمنية .
– ما جدوى هذه الانتخابات الحالية ؟ وما الفرق بينها وبين سابقتها وسابقاتها ؟
– ما الذي يمكن أن يقدّمه أي حزب جديد، سواء كان حداثي أو إسلامي، أو مزيجا منهما، أو غير ذلك، في ظل تعقيدات تشكّل بنية مجال الفعل … ؟
– هل هناك تصالح بين المخزن والمناضلين السابقين والمعتقلين السياسيين سواء كانوا يساريين أو إسلاميين، لتشكيل وضع سياسي يلاءم الجميع، وفق الرهانات الحالية المضمرة والمروّج لها ؟ وهل هناك مناضلين حقًا، أم أنّهم مجرّد ضحايا إيديولوجيات وخطط مستقبلية، وأوراق تلعب دائما وتصاغ حسب احتقان الأوضاع وما تفرضه ضرورة التحوّل الداخلي والخارجي؟
– هل نعتبر الدستور الجديد تجديدًا فعليا في مسار المغرب، أم أنّه مجرّد ورقة تلعب كما كان الشأن بالنسبة لورقة إحداث وزير أوّل ؟ … والأسئلة كثيرة، لكننا سنكتفي بهذا القدر ما دامت ملامح طرحنا قد اتضحت… كما أنّنا لا ندين أحد بقدر ما نصف أحداثًا تتبدّى أمام أعيننا.
من البديهي أن يريد الشعب التغيير كالعادة، لكنّ هذا الشعب لكونه منغمس في ضرورات الحياة المعيشية ومستلزماتها، فهو لا يعي البنية الداخلية لتشكل الوضع السياسي المغربي، ودليل قولنا هذا، هو أنّ المغاربة علّقوا آمالهم دائما على أحزاب اعتقدوا فيها خلاصهم دون أن يتحقق في الأخير أي خلاص، الاستقلال… الإتحاد الاشتراكي… العدالة والتنمية، وأحزاب عديدة لعبت الدور الكبير في المشهد السياسي المغربي، وعلّق عليها مجموعة من المغاربة آمالهم دونما أي يأس أو كلل، فكلّما كانت هناك خيبة، تكتّلت روح الشعب في حزب ما ليحمل معه ما تبقّى من الآمال العطشانة، لكنّ هذا الحزب يخل بوعوده في الأخير وتستمر الخيبة، فيغتني قادته ويبقى الشعب على حاله… ونفس المشهد يتكرر دائما، وها نحن نقبل على مشهد آخر مماثل، مستعد بالقوة ليتحقق بالفعل حسب تعبير أرسطو.
إنّ ما نريد قوله هنا كمراد إيصاله، هو مثل قول الحق تعالى: ( إنّ اللّه لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهمْ ) [ الرعد: 11] … لكنّنا نضيف أيضًا سؤالاً آخر يوجّه قولنا لما يتوخّى تحصيله منه، مفاده: وماذا لو أراد هؤلاء القوم أن يتغيّروا لكنّهم لم يستطيعوا لكونهم محكومين بقوى أكبر من إرادتهم ومن طاقة أنفسهم؟ …
يجرّنا بعد قولنا هذا إلى أن الوعي بما هو وعي يتشكّل قهرًا حسب إيديولوجية السلطة، متمثّلا في القوانين والمقرّرات التعليمية، وكدا تسييس المعتقد الديني لتقييد الشعب به، وكذا الأحزاب المتبنية له أو المستقلّة عنه … فالقوانين ترسم حدود الحرية سواء على مستوى الفعل أو الرأي أو التصوّر؛ والمقرّرات التعليمية تنحت القيم وتوجّهها وتنمّط الأفراد، وتخضعهم في مستوى لا شعوري لإيديولوجية السلطة، وهم يعتقدون في مستوى حدود وعيهم أنّهم يتعقّلون أفعالهم وأفكارهم، بيد أنّهم لا يبارحون حدودًا جهّزوا لها مسبقًا أثناء تنشئتهم؛ أمّا بخصوص المعتقد الديني وعملية تسييسه، فإن أي مواطن مغربي سيلاحظ مدى حجم التناقضات الأخلاقية التي تشهدها دولة المؤمنين، وكيف يتمّ دائما إبداع مخارج دينية لأخطاء تقترفها الدولة أو بعض رجالاتها بدعوى أنّ ديننا دين انفتاح، بينما نجد هذا الدين ينغلق من جديد حينما يكون الخطأ من وجهة أخرى، بل يتمّ تجريم الفعل وتحريمه حتّى وإن كان يستمدّ صحّته من الشرّع وفق عملية تأويلية إيديولوجية تنجح في الغالب بحكم مرونة اللّغة، وكونها حمّالة أوجه، فيغلّب بفضل السلطة معنى تراد غلبته ويحجب معنى آخر يراد إخفاؤه… والحال أنّ أقرب ما يكون العبد إلى ربّه وهو ساجد… وسلطة القوانين لا يمكنها أن تنفع في مستوى النوايا، وما يرضى عنه الله مختلف ضرورة عمّا قد يرضى عنه من نصّبوا أنفسهم كخدّام للّه في الأرض … لكن من يأبه، فأصحاب تسييس الدين لا يهتمّون لذلك، وهم واعون به طبعًا… لأنّ همّهم هو السلطة وملذاتها بالمعنى الذّي يتحدّث عنه (هوبز) …
ولكي لا نبتعد عن إطار موضوعنا ولو أن جوانبه لا تستنزف تحليلا أو شرحًا، نقول إن تلك البنية المشكّلَة من السلطة كرأس لوجود تاريخي، ومن نتائجها والتي هي القوانين والمقرّرات التعليمية، وتسييس الدّين، وكذا رسم حدود الأحزاب وإرادات الأفراد بكل تفرّعاتهم وتكتلاتهم، هي ما يمكن تسميته بقهرية الترسّبات السيكولوجية، والّتي تفعل فعلها رغم اختلاف الإرادات وديمومة فعلها، فالترسبات السيكولوجية هي التي ترسم المواطن المغربي كنتيجة لها، سواء من حيث رأيه أو ثقافته أو حدود إبداعه وتجديده وتمرّده … إنّها ترسّبات لا شعورية تم رضعها من ثدي المقرّرات والقوانين وكذا مجموعة من البروتوكولات والسلوكيات المنافقة الّتي تم نشرها في كل فترة كموضة أو كعلامة للتحرر أو الانفتاح أو للمواطن الحضاري… وبالتّالي إنّ حدود الإرادة الشعبية خاضع لحدود تخطيط السلطة الحاكمة بخصوص الإرادة الوطنية، فحدود تخطيط السلطة هو مهد الأحزاب المتواجدة حاليًا، وطبعًا تستلزم قانونية أي حزب موافقة السلطة وقبولها له، وبالتّالي إنّ حدود فعل أي حزب تعكس الحدود التي تسمح بها العلاقة التعاقدية بينه وبين السّلطة، بل حتّى مساره ترسمه له، مع مراعاة الاكراهات والتوصيات الخارجية، وكذا بعض الاحتقانات الداخلية الطبيعية.
هكذا كيف يسعنا اليوم كمواطنين أوّلا وكمثقفين ثانيًا، أن نأمل من أي حزب كيفما كان سعيه أو تجديده تغيير خارطة تحجّرت سيكولوجيًا، وباتت تشكّل هويّة لسلوك المواطن المغربي، بحيث أنّ هذا الأخير مهما طالب بالإصلاح ودافع عن قيم ما، نجده يقلب خطابه وقناعاته بمجرّد ما يذوق عسل السّلطة وينعم بدفء جناحيها … إنّها قوّة سيكولوجية ترسّبت بفعل الزّمن تخضع الأفراد لها لأنّهم مجبولون منها، وهي تشبه من حيث الأثر طبيعة العبد عند ( هيجل )، والقوى الإرتكاسية عند (نيتشه) … إنّها قوة لن يغيّر منحاها تحسين نوايانا بخصوص الإنتخابات، أو حتّى مقاطعتنا لهذه الإنتخابات… ففي الفيزياء كل قوّة تحتاج لمقدارها أو أزيد منه لتصد أو ترد، ولكي يعدّل منحاها على الأقل تحتاج لبعض القوّة الخارجة عن تلك القوّة، وهذا من جهة الفيزياء طبعًا … أمّا بخصوصنا نحن، فإننا كمثقّفين، نأمل أن ينضج الوعي الجماعي، دون أن يكون هذا النضج مفارقًا للنضج الأخلاقي والمسؤولية تجاه الوطن… فنحن الوطن حتّى وإن كان أسياده لا يأبهون لأمرنا، وصوتنا إن تشبّع بذاك الوعي الخلاّق سيرغم تلك الترسّبات السيكولوجية على أن تشكّل من جديد تبعًا لإرادتنا الواعية و المسئولة عن حياتنا ومستقبل أبنائنا.
بقلم : بولي هشام
طالب وباحث …