نوفل بلمير ….. دراما 4: الشاطئ
وأنا ألقي نظري على ما حولي، أجد أن كل الأشياء تغيرت، الطبيعة تغيرت، و البشر تغير و المشاهد تغيرت، منذ خمسة و عشرين سنة، لم تكن الأمور على هذا النحو، إنه تحول كبير إن لم يكن تحولا جذريا.
لم يكن ذلك ليثير الانتباه لو أنه صار وفق تطور حضاري و رقي بشري، لكن الأمور أخدت مجرى آخر مع الأسف الشديد، تغير سلبي يحز في النفس و يجعل من الأمس القريب ماض جميل، متحسر عليه.
قبل خمسة و عشرين سنة، كان المغاربة المرتادون لهذا الشاطئ، أناس محترمون، عائلات و أصدقاء، يحملون معدات و لوازم شاطئية أنيقة و خفيفة، مناسبة للحظة و المكان، يضعون لباسا شاطئيا صالحا للاستجمام، مايو قصير للرجال و “دوبياس” للنساء، ثقافة الجسد كانت حاضرة لدى المغاربة و لم يكن ليخجلوا من أجسادهم أو من نظرة الآخر لتضاريسهم، ببساطة كانت الأشياء تعير للحظة قيمتها الجمالية و لا تستسلم أمام الغريزة، كان الجسد ينتمي للمجال العام المتفتح و المفعم شكلا و مضمونا بثقافة متنورة لا تتطاول على خصوصيات الأفراد، الجميع يمارس حريته بنبل و باحترام للآخر.
كان مرح الصغار وديعا و بريئا، لا يملأ الجو ضجيجا يزعج خرير المياه و هبات الرياح التي تنعش الأجساد بين الفينة و الأخرى. كانت الأجواء هادئة و ممتعة، صورة منسجمة الألوان و الأفكار، بداعة لا يمكن أن يرويها إلا الحاضر في ذلك الزمان.
النادي المتوسطي يستقطب أجانب من مختلف الأجناس و الأعمار، يستمتعون بزرقة المياه و يتجولون فوق الزبد الأبيض و هو بساط ينعش خطواتهم لمسافات في أمان تام، أو تجدهم مستلقين فوق الرمال الذهبية يستقبلون أشعة الشمس الصفراء، رغبة الحصول على بشرة سمراء تنفض عنهم عياء سنة من الكد و الاشتغال، آمنون متأكدون أن صيف هذا المكان يستهوي العشاق و الراغبين في المغامرة دون خطر بشري يحظر التجوال. شعائرهم البحرية كانت عادية، طقوسهم يتقاسمونها مع المغاربة بكل حب و احترام، نتبادل التحايا، “بونجور”، “كود مورنينغ”، “سالــــي”، بكل لباقة وعمق إنساني، هناك من يمدك بآلته الفوتغرافية لتلتقط له صورة يؤرخ بها اللحظة و هناك من يستأنس للمشي و الحديث، و الآخر يمارس رياضة الركد أو الغطس دون خوف من وحش برمائي يزعج انشغاله و يشوش على هوايته المفضلة.
هذه الصورة ليست من بدع الخيال، إنها صورة لما كان عليه الوضع قبل خمسة و عشرين سنة، صورة أصبحت من درب الماضي السعيد، حيث كان للكتاب و القراءة حيزا في هذا الفضاء، مغاربة و أجانب يحملون المجلة و الرواية، البحر مكان للاستجمام و فرصة للسفر بين سطور كاتب مفضل يثري الروح و ينعش الخيال، زرقة السماء لها معنى و زرقة البحر معنى و الحاضرون أصحاب المعنى، و كأنها اوركسترا تعزف نفس اللحن، إنها فلسفة للحياة تحبذ الإنسية و الجمال و تشترك مع الطبيعة في عفويتها و تشكلها الإبداعي.
تم تمديد الطريق السيار و توسيع الطرقات، تدمقرط الاصطياف، و أصبح الولوج للشمس و البحر متاحا للجميع، تم ثقب الجبال لإسعاد أكثر ما يمكن من الناس، تناسلت البنايات وداس الزحف الإسمنتي على البقاع ، انتهكت حرمة الجبل المنتصب بين أحضان البحار منذ زمان و انصهرت قمته بين الأزقة و الجدران، ظلمة الليل الرومانسية عوضتها أعمدة كهربائية من حديد و فولاذ، و توافد الحجاج بالآلاف من كل فج عميق، متحررون من أصفاد حواضر و أرياف، كبلت الضمائر بشتى أنواع العقد و المركبات.
رحلت سمفونية الشاطئ، ساد الصراخ و الضوضاء، تلطخت الصورة بنقط سوداء، سراويل طويلة للرجال و برقع أفغاني للسباحة للنساء، أجساد مطاطية تطفو فوق السطح و الأجسام تحترق بأشعة الشمس الوعرة، عويل الصغار يربك التركيز و يستنفر الجموع.
استبدلت لوازم البحر الخفيفة بتجهيزات ثقيلة و تنوعت المأكولات و حضرت مختلف الأطباق، من البطيخ إلى الدلاح، لم يكتفي الباعة المتجولون بأرصفة الشوارع بل فضلوا الإرساء عند زبد البحر، ذلك من كان بالأمس القريب يلامس أقدام حفيدات الروم و الإغريق، الناس تتهافت على الجنبات الأمامية للشط، إنها الفرجة و الكرنفال، مغاربة العالم حاضرون فوق الخشبة بسلوكاتهم التي تبرر تقدم اليمين المتطرف بالقارة العجوز، إنه زمن الحرية و زمن اللا إنفعال.
بعد خمسة و عشرين سنة، لا يزعم الأجانب على اجتياز حدود ناديهم المتوسطي، لا تزعم نساؤهم على المغامرة بعيدا نحو الشاطئ، أما رياضة المشي و الجري و الغطس وكل أشكال الترفيه خارج الحدود لم يعد لها وجود، يتفادون نظرات المحليين، ينكمشون في فندقهم، عسى أن تمر عطلتهم خيرا و سلام.
أمام هاذين المشهدين، اختفى الرواد القدامى، منهم من فارق الحياة و رحل حاملا معه ذكريات الزمن الجميل و منهم من حاول بلا جدوى التكيف مع النمط الجديد لكنه استسلم في الأخير أمام مرارة الواقع الأليم و غادر المكان إلى وجهة أخرى لا زالت عفيفة من أعراض التحول الخبيث، هناك من فضل الانزواء بعيدا عن تخمة الزمن الجديد و فضل فصلا آخرا للاستجمام، غادروا المكان الذي كان بالأمس القريب وجهة كل حالم و راغب في الاصطياف، رغم الحشود الغفيرة أصبح الشاطئ مهجورا، و على شرفة الاستياء، خيم الحزن على المكان.