في الحاجة إلى نهضة ثالثة
عبد العزيز كوكاس
“-إذا كان مطلوبك في المرآة أن ترى فيها وجهك، فلم تأتها على التقابل، بل جئتها على جانب، فرأيت صورة غيرك فيها، فلم تعرفها وقلت: ما هذا أردت، فقابلتك المرآة فرأيت صورتك فقلت: هذا صحيح، فالعيب منك لا من المرآة.” ابن عربي
حين حمل نابليون مدافعه وعلماءه إلى مصر عام 1798 بعد عقد من قيام الثورة الفرنسية، لم يكن يعي حجم الزلزال الذي سيحدثه التواجد الفرنسي في أرض الفراعنة، كان منتشيا بوقوفه أمام تمثال أبو الهول، ليردد قولته الشهيرة.
لقد أوقد شرارة ربيع فكري ومذهبي قادته نخبة متنورة منذ منتصف القرن 19، قادها جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، أحمد لطفي، قاسم أمين، عبد الرحمان الكواكبي، وفي المغرب أبو شعيب الدكالي ومحمد بلعربي العلوي، وجمعية علماء المسلمين بالجزائر مع عبد الحميد باديس والبشير الابراهيمي، في وقت تالي. تفاوتت إجابات النخبة العربية على سؤال الحداثة والتقليد، التقدم والديمقراطية، من خلال السؤال الذي صاغه عنوان كتاب الأمير شكيب أرسلان: “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”
كان ذلك بداية يقظة فكرية، قادتها نخبة فكرية معزولة عن قاعدتها الاجتماعية، نهضة ثقافية مست رأس المجتمع فقط دون أن تتسرب إلى باقي أعضاء الجسد الاجتماعي الغارق في الفقر والأمية والجهل والاستبداد، ذهبت أنظمة وجاءت أخرى، كلها كانت تحدث التغيير بالحجم والشكل الذي يخدم مصالحها، فتم توجيه قطاعات التربية التعليم والتكوين والثقافة والشباب، وفق المنحنيات التي يمر منها النظام السياسي وتتأثر بتغيير جلد السلطة في كل محطة…
كانت نهضة نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين، نهضة ثقافية قادتها نخبة متنورة تكون أغلبها في مدارس ومعاهد الغرب، وحين عادت إلى بلدانها، وجدت نفسها غريبة أو معزولة عن المجتمع الذي تعيش فيه، انعكست هذه النهضة في الأدب، الفكر والثقافة وفي كل أشكال الإبداع وفي الصحافة.. لكنها لم تمس الأجساد التي يمكن أن تمشي عليها الرؤوس، فلذلك ظلت نهضة معزولة لم تتعد صفحات الجرائد، وكتب الفكر والثقافة والصالونات الضيقة ورحاب الجامعات… فيما المجتمع كان يواجه الخوف وغياب الأمل، محكوما بمنظومة الاستبداد المحافظ والاشتراكي والقومي والليبرالي والثوري والرجعي..
فشلت منظومات التربية والتعليم في خلق مواطن عربي إسلامي متحرر، عقلاني، مستقل… ولم يتم توطين الديمقراطية والسلوك المدني والمواطنة، على العكس تضخمت الدولة العربية / الاسلامية، التي بدل أن تكون تجسيدا لهذا الكل الاجتماعي بمختلف مكوناته، أي بدل أن تكون دولة مجتمع، خلقت مجتمع الدولة، القانع المستسلم المنهزم الذي بلا أمل،
كان علينا انتظار بداية الألفية الثالثة، بعد أن خلا منها عقد بالتمام والكمال، لنصحو على إيقاع نهضة نوعية، يقودها الشارع العربي، مع حادثة البوعزيزي في تونس وهرب زين العابدين، “ربيع” عربي مس جل الدول العربية، قاده الشباب أبناء الطبقات الوسطى في المجتمع التي بعد انهيار أحلامها وطوباوياتها في الإصلاح السياسي، توجهت للاستثمار في تكوين أبنائها.
هم الذين كانوا رموز هذا الحدث الذي زلزل الأرض تحت عروش وأنظمة ذابت مثل فص ملح، نزل شباب مواقع التواصل الاجتماعي إلى الشارع العام، ومعهم انتقل الرعب والخوف من قلب المجتمع إلى رأس الأنظمة الحاكمة، فسقط مبارك مصر، وقذافي ليبيا، وزعيم اليمن ….
كانت نهضة للجسد الاجتماعي الذي لم يعد يقبل بالظلم والاستبداد ويطالب بالكرامة والحرية وبتوزيع عادل للثروات… لكنها نهضة بلا فكر، بلا منارة تسترشد بها سفن هذا البحر المتلاطم الأمواج.
كانت النخبة قد أصيبت بالترهل والعياء، أقصد تلك النخب التي لم يستطع النظام العربي استقطابها ولا ترويضها، أما المثقفون فقد غرق أغلبهم في تفاصيل اليومي، أو استكانوا إلى تخصصاتهم الفكرية الضيقة التي يتعيشون منها، وتحافظ على وجودهم الرمزي في الساحة الفكرية، كانت يقظة المجتمع في حاجة ماسة لنخبة النهضة العربية الأولى أمثال محمد عبده، الكواكبي، قاسم أمين، علال الفاسي، المختار السوسي، ابن باديس، الأفغاني…
لعل هذا ما دفع خبيرا عربيا وهو مروان المعشر المفكر الأردني الذي يشغل اليوم منصب نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، كان نائب رئيس وزراء الأردن بين 2004 و2005، ومسؤولا عن الإصلاح والأداء الحكومي، وشغل منصب نائب الرئيس الأول للشؤون الخارجية في البنك الدولي من 2007 إلى 2010، له كتابان هما: The promise if modernation/The second Arabavaking And The battle for phuralism/ ” إلى الحديث عن الحاجة إلى اليقظة العربية الثانية والنضال من أجل التعددية.
حلم اليقظة الثالثة التي سيكون لها مستقبل هي الإيديولوجية التي تحظى بأقل ترويج وهي التعددية. تعددية الفكر، تعددية الأحزاب، حق الفرد في التفكير بشكل مختلف عن الجماعة، تعددية الفرص المتاحة بين الجنسين، احترام سائر الأديان وتعددية تجاه الأقليات.
يقول مروان معشرفي مقال له بجريدة “الغد” الأردنية”: “التعددية هي النظام الذي نحتاج لحل مشاكلنا كافة، وطالما أن هذا النظام غير قائم، فلن نبلغ ذلك، إنها معركة داخلية، فلنكف عن الأمل بأن يصلنا التقدم من الخارج”
نحتاج إذن إلى تعددية يتآخى فيها الجسد والرأس، الفكرة التي ينقلها من طوباويتها وأسطوريتها شباب واعي متحمس واقعي مؤمن بالإصلاح، والتعددية، هذه هي النهضة التي نتطلع إليها.