مفهوم عاشوراء في الإسلام
من وجهة نظر تاريخية، لا تنتمي عاشوراء للتقويم الزراعي الشمسي، لأن هذا الطقس احتفال ينعقد في العاشر من شهر محرم في التقويم القمري الذي بدأ استخدامه في 638 م، عندما اجتمع عمر بن الخطاب مع مستشاريه وافتحصوا تاريخ بدء السنة الإسلامية، حيث اتفقوا على أن تاريخ هجرة النبي (ص) إلى المدينة المنورة ستتخذ كحدث كبير و نقطة مرجعية مناسبة لبدء المسلمين لتسلسلهم الزمني. لقد تأثر المسلمون بالمجتمعات المجاورة التي تعيش في الجزيرة العربية، كاليهود على سبيل المثال ، الذين بدؤوا تقويمهم بحدث نزوحهم الجماعي الذي سجل خلاص بني إسرائيل من العبودية، وميز عبورهم بشكل آمن عن طريق بحر القصب، وتأثر المسلمون كنظرائهم اليهود بالتقويم السومري-البابلي الذي يرتكز على أساس تكرار دورات القمر، وهكذا، سيرا على منوال السنة الشمسية، تم تقديس البدايات المرصودة للسنة القمرية.
يبدو أن المسلمين تأثروا من قبل اليهود في إضفاء الشرعية على عاشوراء، بوصفها عيدا للسنة الجديدة، وذلك على غرار يوم الغفران) يومكيبور) الذي تحتفل به اليهود. في الواقع، إن عاشوراء تتزامن مع توقيت يوم الغفران الذي ينعقد في العاشر من الشهر الأول في التقويم اليهودي القمري الشمسي، و إلى جانب ذلك، هناك السنة النبوية التي تؤكد أيضاً أن النبي اجتمع باليهود في المدينة المنورة، وسألهم عن صيام يوم عاشوراء، فقالوا له: إن هذا اليوم كان يوما عظيما لأن الله حفظ فيه موسى من عدوه، فأجاب النبي بأنه أقرب إلى موسى من اليهود، وهكذا أمر أتباعه بالصوم في ذلك اليوم المقدس (كما ورد في صحيح البخاري ومسلم وأبو داود).
لقد وضع المسلمون كنظرائهم اليهود تقويما منضبطا ينتظم باحتفالات السنة الجديدة التي تعيد إلى الأذهان رأس السنة اليهودية في اليوم الأول من تشري، و يوم الغفران في العاشر من الشهر نفسه، لكن هل يوجد أي تشابه بين عاشوراء ويوم الغفران على مستوى الممارسة الفعلية، بالرغم من أن نظرية الاقتباس تبدو متجاوزة في هذا السياق؟ من الملاحظ أن طقوس نهاية السنة تمارس في شكل مهرجانات ثقافية على صعيد جميع أنحاء العالم، و هكذا يمكن أن تكون عاشوراء، قد وجدت عند قريش قبل الإسلام، تحت تسمية مختلفة، كاحتفال سنوي في الذكرى الانتقالية التي تميز بداية و نهاية العام، خاصة إذا كانت السنة النبوية تؤكد على أن نبي الإسلام، قد صام في مثل هذا اليوم بمكة المكرمة قبل نزول الوحي.
تعتبر عاشوراء ويوم الغفران) يومكيبور) فرصا يسعى من خلالها الناس لمقاساة الندم و طلب المغفرة، إذ بالنسبة للمسلمين، يجل يوم عاشوراء، وتقام فيه شعائر الصوم و التصالح مع الأصدقاء والجيران والأقرباء والأموات، ويتضرع الناس لله لتخفيف ذنوبهم. وبالمثل، يعظم يوم الغفران عند اليهود بالصيام وإقامة شعائر مكابدة الندم و طلب المغفرة في الكنائس، ففي التقاليد اليهودية، يعتبر يومكيبور التاريخ الذي أكمل فيه موسى تعليماته من الله، ومنح بنو إسرائيل العفو الإلهي عن خطيئة العجل الذهبي، وهكذا سمي بيوم الغفران، وهو احتفال تتطهر من خلاله اليهود في معابدهم من الخطايا المتراكمة طيلة السنة، وتستقبل العام الجديد بسجل أخلاقي نظيف، ويتم الإلقاء بكبش الفداء في البرية ليلقى حتفه، وهو محمل رمزيا بخطايا اليهود، وبالتالي يخلص الأمة من الظلم وعذاب الضمير، هذا طقس من طقوس التطهير الرمزي عن طريق تقديم قرابين و أكباش فداء؛ إذن، فعاشوراء ويوم الغفران يتقاسمان الكثير من الخصائص، باعتبارهما طقوسا تطهيرية لنهاية السنة، وربما لهذا السبب كان اليهود المغاربة يحتفلون بيوم الغفران في مناسبة عاشوراء.
إن عاشوراء في الإسلام الأرثوذكسي طقس يخلد نهاية السنة القديمة وبداية السنة الجديدة بامتياز، وتؤكد لنا قراءة متأنية في القصص التي تروى حول هذا الطقس، بالإضافة إلى ما حفظ في سجلات العلماء، أن هناك استنتاج مفاده أن هذه الطقوس أعمال رمزية تشير إلى بدايات عهد جديد، و تتفق مع روح مهرجانات العام الجديد. و هناك اعتقاد سائد بين المسلمين أن الله خلق الكون و آدم والجنة في هذا اليوم المقدس، و جعل الله آدم أيضا يدخل الجنة وغفر له، و ولد إبراهيم، ثم أنقذ من النار في هذا اليوم، وولد يسوع المسيح في هذا اليوم كذلك، و من ثم رفع إلى السماء في نفس اليوم، وأنجدت اليهود أيضا من عدوها في هذا اليوم؛ كل هذه الأحداث العظيمة المقدسة تبرهن على وجود مرحلة انتقالية في دورة حياة المجتمعات، إذ أن هناك بداية، وتطور، و نهاية، ثم تليها بداية دورة أخرى، وهذا التحول قد يتقاطع مع ما يحدث في الدورة الطبيعية من تغيرات، إذ تخضع النباتات لمواسم و تقلبات مناخية موازية لدورة الحياة، والموت، والبعث.
إن عاشوراء، الحفل المكي، الذي تميز في الماضي بروح السنة الجديدة، حيث يخلد بالصوم والاعتكاف، سيخضع لنقطة تحول في مساره التاريخي نتيجة لقتل حفيد النبي، الحسين، والذي ذبح على يد جنود اليزيد بن معاوية في كربلاء يوم عاشوراء عام 680 م. لقد أرخ هذا اليوم لمأساة حقيقية ظلت المجتمعات الشيعية تحتفل بها على مر الأزمنة في حزن ورثاء لموت الحسين؛ لكن المجتمعات السنية بقيت وفية لروح الامتناع والزهد يوم عاشوراء معتبرة احتفالات الشيعة هرطقة ضلالية، و ذلك لأن الإسلام يحرم الاحتفال بذكرى الأموات، حتى ولو كان ذلك يتعلق بموت الأنبياء.
تحتفل الشيعة بعاشوراء في حداد و ضراء لمقتل الحسين، ففي إيران مثلا، كما يلاحظ غوبينو (حسب ماورد في دراسة معتوق، 1974/21( ، يتحول المجتمع كله إلى حداد لمدة عشرة أيام اعتبارا من الأول من شهر محرم، إذ أن الملك والوزراء وموظفي الخدمة المدنية، وبقية السكان يرتدون اللباس الأسود ويدخلون في فترة حداد، ثم تنعقد مجالس التعزية التي تعيد تمثيل أجواء موت الحسين. ويتحدث الباحثون عن وجود ثقافة تسويقية تستهلك يوم عاشوراء، خاصة في إيران ولبنان؛ حيث تجند مجالس التعزية عددا من العناصر الفاعلة والقراء، والممثلين لأداء ادوار درامية تجسد الاستشهاد المقدس للحسين، و تضم هذه المسرحيات أنواعا من السرد، و فن التمثيل الإيمائي، و التباكي، و الشعر، و نصوص مكثفة لتهييج العواطف وممارسة جلد الذات.
لقد ارتحل النفوذ الشيعي وسافر شرقا وغربا، فتواجد في كل مكان تواجد فيه المسلمون، إذ في المغرب مثلا، نشأ التشيع مع الأمازيغ الذين اكتشفوا فيه، وفي الخوارجية (نسبة إلى الخوارج) ضمانا لاستمرارية الهوية الأمازيغية، ذلك لأن الفاتحين العرب الأوائل عاملوا الأمازيغ حديثي الأسلمة بوصفهم مواطنين مسلمين من الدرجة الثانية، فأجبروهم على تأدية ضرائب ثقيلة، و تعرضوا للرق، والعزلة الاجتماعية، وهكذا، دعا زعماء الأمازيغ إلى الخوارجية لأنها تضع المسلمين على قدم المساواة بغض النظر عن العرق و اللون، وتصر على أن التقوى هي الشرط الفيصل لإمارة المؤمنين في المجتمع الإسلامي، ولقد مهد هذا الواقع لمشاركة الأمازيغ في السياسة الإسلامية المحلية.
و دعا الأمازيغ أيضا إلى التشيع الذي أصر على منح سلطة القيادة إلى النسب النبوي الشريف (أهل/ آل البيت)، وهكذا قطع الطريق على تلك القلة من الأصول العربية التي اشتهت استعباد السكان غير العرب، والاستحواذ على ممتلكاتهم. وتحقق التشيع مع وصول الأدارسة (788-974) إلى الحكم، إذ كثر التعاطف مع انتشار التشيع الإمامي في بعض مناطق المغرب. و قد كان الأدارسة أول سلالة شريفية تدرج كلا من العرب والأمازيغ في دوائر الحكم، وسيتم ترسيخ منظومة النسب النبوي كشرط أساسي من شروط الحكم السلطاني في المغرب، وهكذا فإن السلالات التي حكمت البلاد فيما بعد، باستثناء المرابطين والموحدين، استمدت شرعيتها من انتمائها إلى السلالة النبوية الشريفة.
و خلال الفترة المرابطية، اعتنق المغاربة رسميا المذهب المالكي، وانضموا إلى الإسلام السني، واستأسدوا في محاربة شوكة المذاهب الأخرى، ورغم ذلك، احتفظ المجتمع ببعض مظاهر التشيع كالاحتفال بالمولد النبوي، فأصبح هذا العرف الشيعي خلال العصر المريني احتفالا وطنيا عند المغاربة، كما تم تكريس تبجيل الشرفاء، باعتباره عادة عميقة الجذور، منغرزة في الثقافة المارابوتية والتصوف الشريفي، و تثبيت الاعتقاد في بركة الشرفاء، إلى درجة أن الدعاء بشفاعة النبي و ابنته فاطمة التي كررتها الابتهالات الصوفية تداخلت مع لغة الحياة اليومية للمغاربة، و لوحظ أثناء إحياء ذكرى عاشوراء إقامة مراسم حداد داخل المراقد المارابوتية المقدسة، وبين الجماعات الصوفية الشريفية.
و بالنسبة للشيعة، تعتبر عاشوراء ذكرى تخلد مقتل الحسين، يبتأس ويغتم من خلالها الشيعة، فيرهقون أجسادهم بتعذيب طقوسي وإيذاء شديد، و يوم عاشوراء، هو يوم حداد يعبر عن مشاعر حزن قوية تعكس مدى عذاب المسلمين وشجنهم على مقتل حفيد النبي، الحسين. و عادة ما تحتفل الشيعة بعاشوراء في حداد و ضراء، و بإنزال ألم مبرح بالجسد في شكل طقوس تجسد دراما وفاة الحسين، و أدرجت العادة عموما في صناعة الفحولة الرمزية في المجتمعات الشيعية في كل مكان. و ينشط مفهوم الاستشهاد متجسدا في شخصية الحسين التي ارتقت إلى نموذج الشجاعة والصبر والثبات ومقاومة الطغيان، وبالتالي، فإن الاحتفال بذكرى عاشوراء ينطوي على جلد الذات، من طرف الشيعة الذكور الذين يلحقون الألم بأجسادهم، على إيقاع أناشيد وأنغام في طقوس سادية-مازوخية، لإثبات الفحولة، وإحراز ثبات رجولي قوي في وجه الألم.
لقد تم نقل النفوذ الشيعي بشكل عام إلى ممارسات الطرق الصوفية في المغرب، مثل طريقة حمادشة، أتباع سيدي علي بن حمدوش في مكناس، الذين يجولون الشوارع في مشاهد علنية شاذة، حيث يقوم الأتباع المهرة بضرب رؤوسهم وشقها، و تسويط أجسادهم، وهناك كذلك نموذج الطريقة العيساوة التابعة للهادي بن عيسى أيضا في مكناس، والتي يؤدي أتباعها أشكالا متنوعة من شعائر جلد الذات وتعذيبها، بما في ذلك تناول الصبار الشائك، والزجاج، واللحوم النيئة للماعز و الأغنام، و يتم تنفيذ هذه الطقوس من قبل أعضاء مهرة مدربين ثقافيا بتطبع سادي-مازوخي، ينتمون إلى أسفل الهرم الاجتماعي من “الريف-الراف” أو الغوغاء، كما هو الحال في الماضي عندما ” شارك الحرفيون من كل نوع، اسكافيون وحدا دون وجنود وبائعوا الفحم، والفئات الغوغائية من الغرب وسايس و السهول، و سكان المرتفعات من الريف وزرهون، وباختصار، فإنهم الرعاع” (برونيل ، 51-21926/ )
و حتى الآن، لازالت الفئات الاجتماعية الكادحة تشكل الينبوع البشري الأساسي الذي يزود المارابوتية بأتباع من فلاحين و تجار صغار، وحرفيين وباعة متجولين من كل نوع على نطاق واسع في المغرب. وتلبي الطرقية الخشنة احتياجات هؤلاء الطبقات الدنيا المحرومة، حيث ينشد فيها الأتباع ضالتهم من جلد الذات وتعذيبها بغية تحريرها من البخت المكفهر البهيم، وتمتحن الذات الاجتماعية باختبار رمزي للرجولة، وتحقق رغبة الفئات المقهورة في “الخلاص السحري” من مظالم الحياة الاجتماعية، وعتمة المصير .
و باختصار، تخلد ذكرى عاشوراء، العاشر من الشهر الأول من السنة الهجرية، في الإسلام بطريقة مختلفة تماما عما يعتقده الناس عن السنة الجديدة في الثقافات الأخرى، فبدلا من النظر إلى هذا العام الجديد كيوم للشرب والرقص والترف، يواصل المسلمون الدرب على منهاج نبيهم، فيغتنمون الفرصة في عاشوراء لإحياء المراقبة الروحية والمعرفة الصوفية الانعكاسية للذات، عن طريق الصوم و تطبيق شعائر التوبة، فمثل اليهود في مناسبة رأس السنة ويوم الغفران، يقضي المسلمون معظم النهار في الصلوات والذهاب إلى المساجد والمقابر، وينهمك البعض في التفكير في الآخرة و يوم القيامة والمحاكمة الإلهية، ويتأمل البعض الآخر أعمال السنة الماضية، ويتصدقون ويذكرون الله، راغبين في تطهير أنفسهم من أي شوائب تذكر، و يقومون بزيارة الأصدقاء والأقارب، كما يفضلون الإمساك عن ملذات الحياة، محاولين التضرع إلى الله أن يغفر لهم أخطائهم، ويمنحهم فرصة أخرى للقيام بعمل الخير في السنة المقبلة.
د. محمد معروف، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة