أسباب وخلفيات ظاهرة التحرش الجنسي، وسبل مواجهتها
حسام تيمور
تبدأ الحضارة, حيث ينتهي الاضطراب و القلق, و الخوف من سُلطة “المجهول”, بظلاله و هواجسه, في الحضور و الغياب معا.. فحيثُ ما تحقّق للإنسان, ذلك الشعور ب “الأمان”, فإنّه ينطلق نحو البناء و الابداع, عن طريق تصريف طاقاته الدّفينة, كيفما كانت شُحنتها.. فهي في ذلك, تذوب وسط دينامية “الجماعة”.. في حالتها المُستقرّة, أو المجتمع المُستقرّ, المُقرِّر -و- الخاضع في نفس الآن, لمعايير تضبط ممارسة الحياة, و تُقنّن السلوك و الرغبات بالموازاة مع تحجيم النزوع نحو العُدوانية و التسلّط. لا تتشكّل هذه الحلقة, المثالية نوعا مّا, و الشبيهة بدارة كهربية, إلا بتكامل مجموعة من العناصر بشكل موغل في الدقة, إن لم نقل بأنّه شبه مُستحيل.. فالطبيعة الانسانية, غير الفيزياء, أو الرياضيات..
إن خروج المرأة لسوق الشّغل في المجتمعات الغربية الحديثة, لم يكُن في حدّ ذاته, وليد أجندة نضالية تمّ تحقيقها, بل في الجزء الأكبر منهُ, ضرورة أملاها التطوّر الصّناعي, و هي الحاجة المُلحّة الى اليد العاملة, كمّا و كيفا.. و على هذا الأساس, وصلت المُجتمعات الغربية, الى إقرار المُساواة بين الرجل و المرأة في الحقوق و الواجبات, أو ما يُعبّر عنهُ بتحرير المرأة. حيث لم يكن ذلك نتاج نزوع ذاتيّ, أو زخم نضالي, بقدر ما كان تطوّرا تلقائيا, في “بنية” المُجتمعات الغربية.. و لم يكُن أساسُه إلا المُساواة بين الجنسين, على أساس العمل, كقيمة مُحدِّدة للانسان داخل المُجتمع الرّأسماليّ الناشئ, أو الانسان من حيث هو “قوّة عمل”, بغضّ النظر عن جنسه أو عرقه أو لونِه. و على هذا الأساس, صار للمرأة, في المُجتمعات المتقدّمة, وضع اعتباريّ, يُمكّنُها من تعزيز مُكتسباتها الحقوقيّة, و انتزاع المزيد منها, و المُشاركة في تدبير الشأن العامّ, و حتّى تداول السّلطة السّياسية, على أعلى المُستويات.
لكن بالعودة للمجتمعات المتخلّفة, نجد أمامنا اشكالا ثقافيّا مُركّبا.., حيث أن انخراط المرأة في سوق الشغل و بكثافة عالية, لم يكن له نفس “الأثر” على النسيج المُجتمعي, و إن بإقرار قوانين نوعية, فيما يخُصّ حقوق الانسان عموما, و حقوق المرأة خصوصا : كالحقّ في طلب الطلاق, و الغاء التعدّد, أو تقييده بشروط, اضافة الى النقاشات المفتوحة حول مراجعة قانون الارث, و الزواج المبكّر ..الخ .. و حتى مُشاركتها السطحية, في الحقل السياسي مثلا, لا تتعدّى, كما يلاحظ البعض, دور “الفقاعات” في الهواء, أو “الديكور” الحزبي و البرلماني.. رغم الامكانيات و الفُرص المُتاحة, و المُشرّعة, قانونيّا و دُستوريا.. بل صار الانطباع السائد, بأن تحرّر المرأة, في نُسخته العربيّة, لم يمنحها وضع “الاستقلال المادّي”, مُقابل وضع “التبعية” للرجل و ملازمة البيت.., و إنّما جعلها تجمع, في أغلب الحالات, بين العمل خارج البيت, أي اعالة الأسرة, و التبعيّة للرجل في نفس الآن داخل البيت .. حيث يحتفظ هذا الأخير بكامل مظاهر سيادته و حتى تسلّطه, بالمفهوم التقليديّ المُتوارث.. كما لم تضع هذه الطّفرة حدّا لاقبال “الرجل” على العلاقات الأخرى, خارج إطار الزواج, أو داخله بالتعدّد, طبعا برضى الطرف الثاني (المانع الوحيد في بعض الدول), هذا “التراضي”, الذي يُلغي, أو يُعطّل, كلّ قانون أو تشريع.. مهما كانت درجة جدّيته.. أي : “ما يجري خلف كواليس القانون, حيث تجري الحياة -الفعليّة- ” … انجلس, (اصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة,ص92), و لا يُمكن فهم استفحال ظاهرة التحرّش الجنسيّ, إلا من خلال هذا المُنطلق, الذي, يُجسّد, طبيعة العلاقة الناظمة للأفراد, و واقعهم داخل “المجموعة”.
هُنا نلاحظ, أنه بانتفاء العاملين الاقتصادي, و السياسي (التشريعي و القانوني) و لو نسبيا , فالمرأة تُحافظ على نفس “الوضع”, القديم, أي وضع “الخوف” من “عواقب” مواجهة الرّجل, و التي هي, في هذه الحالة, مواجهة مع واقع المُجتمع الذي تنتمي إليه, و الذي يُمثّل “ثقافة المُجتمع”..,بينما تُمثّل ثقافة الفرد, أو الثقافة على المُستوى الفردي, جزءا من ثقافة هذا المُجتمع على الأقلّ.. و لعل الفرق بين ثقافة الانسان-الفرد, و ما يحملُه من أفكار, يتجسّد في ثُنائيّة : “الرؤوس المصنوعة جيّدا”, و “الرؤوس المملوءة جيّدا”, كما عبّر عن ذلك بطريقة ساخرة, “ميشيل دي مونتين”.
لابدّ أن لكلّ ظاهرة, أصولها المُتشعّبة و المُترابطة.., و التحرّش, ظاهرة ثقافيّة أكثر منها ظاهرة اجتماعيّة..و على هذا الأساس, لا يُمكنُ فهمها إلا من خلال تفكيك “البنية”, التي أنتجت و تُنتج الظاهرة, و تعمل -الظاهرة-, داخلها, و من خلالها, بعلاقات التأثير و التأثّر .. و على مُستويات مختلفة بطبيعة الحال. و عندما نتكلّم عن بنية مُجتمع مُعيّن, فنحن بصدد نسيج مُعقّد, مُتشابك الخيوط, يخضع للتطوّر و التحوّل المُستمرّين, بالمعنى الحضاريّ الشامل.., و تتجاور فيه الأزمنة و الحقب و أنماط التولّد.. و قد يختلف مفهوم “التحرش” نفسُه, من مجتمع إلى مجتمع آخر. حسب الظروف والملابسات التاريخية والاجتماعية. و في بعض الأحيان, داخل “المُجتمع” الواحد, تبعا للتّبايُنات في انماط التشكّل و التولّد.
إن قيم العدل و المساواة و الحرية, ليست مجرّد كلمات قامت المجتمعات الغربيّة بنحتها, أو صكّها.. بل ضمّنتها مُعادلها “الموضوعيّ”, داخل البنية الجامعة, و جعلتها بذلك.. تسمو على الذات.