دفاعا عن الحياد الصحفي
د. المريزق المصطفى، فاعل سياسي
علق مؤخرا أحد الصحفيين المقربين من الحزب الحاكم على إحدى الخرجات التواصلية لحزب الأصالة و المعاصرة مع سكان إحدى المناطق المغربية المثيرة للجدل بسبب زراعتها للقنب الهندي، و استغل موقعه الإعلامي ليصفي حساباته السياسية مع حزب سياسي لا يشاطره الرأي و لا الهوية و لا الإيمان بقضايا عادلة، كانت و لا تزال موضوعا سياسيا و اجتماعيا و اقتصاديا و ثقافيا بامتياز.
إن للأخ الصحفي كامل الحق في التعبير عن مواقفه السياسية كلما رأى ذالك ضروريا، أو كلما طلب منه انتماءه السياسي ذلك، أو كلما رغب في ممارسة حقه في التدبير المفوض لإحدى المؤسسات التابعة لها، ما دامت حرية التعبير اليوم أصبحت ظاهرة عالمية يتوق لها الإنسان، و ما دامت شوق يلح عليه الجميع بإصرار.
و لكن نضج الحركة الديمقراطية يختصر علينا الطريق بايجابية تدعو إلى التفاؤل..خاصة إذا عرفنا أن نأخذ منها دروسا كافية، و أن نبذل الجهد الذهني اللازم لكي نملأ الفراغ الذي تركه الزمان السياسي اللعين، و الذي غطى مصلحة الشعب بقوى و جماعات مشبوهة استقطبت لصفوفها فاعلين مأجورين، ولدوا من رحيم البؤس الطبقي ليناصروا بقايا الاستبداد المغلف بالشعبوية و الرجعية.
و أنا أتفق مع كل الأقلام الصحفية لتقول ما تشاء عن حزب الأصالة و المعاصرة أو غيره، مادام أن أغلب دساتير العالم اليوم، و الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينصان على أن كل شخص له الحق في التعبير، و أن الحق في إبداء الرأي، هو العربون الأمثل لتقدم الشعوب و الأمم، و هو (الحق في الرأي) سلاح – كذلك – لمحاربة الحكرة و الفقر و الجوع و التهميش و الاستبعاد الاجتماعي و الجهل و المرض و العنصرية..
و لهذا سأحاول أن أستعمل هذا الحق، ما دمت أنتمي لجيل النضال من أجل الحق في إبداء الرأي و أديت من أجله الثمن باهظا، لكن بعين الموضوعية و ليس بعين أحادية.
فقبل أن أسترسل في التعبير عن آرائي بخصوص الظاهرة الإعلامية التي يمثلها الصحفي المقرب من الحزب الحاكم ، أريد أن أذكر بنبل مهنة صاحبة الجلالة، و بخصوصيتها كعلم له قوانينه الخاصة، و له مناهج علمية محددة، مهما كان الاستعداد الطبيعي الذي قد يتوفر عليه، أو موهبة خارقة تجعله من بين الملاحظين و المراقبين لحياة الناس و أقوالهم و تحركاتهم.
لقد اعتبر المجري، مؤسس علم الصحافة الحديثة، و عميد “النيويورك ورلد”، جوزيف بوليتزر، أن كل ذكاء في حاجة إلى من يتعهده، و أن الأخلاق الصحفية ملزمة للصحفي، و لا يمكنها أن تكبر و تنمو من دون علم و تجربة.
و بناء عليه، فإن ما قيل في حق الأصالة و المعاصرة لا علاقة له بالتحليلات السياسية و الصحفية المعلنة، بل هو التستر على واقع لم يعد ينكر خصوصيته أي كان، و لن يكون بإمكان أي أحد أن يخفيه.
و المقصود بهذا الواقع مجموع التوازنات، و الخيارات السياسية و الاقتصادية و الأمنية التي نبعت منه، و التي سادت و قادت منطقة الريف و جبالة للحكرة و حددت مصيرها لقرن من الزمن.
و قد نشأ هذا الواقع كما هو معروف على اثر هزيمة جيل الاستقلال الشكلي و انهيار الحلم الوطني الكبير، بعد الضربة الموجعة الاجهاضية التي وجهت لخط التحرير الوطني التقدمي، و في موازاة الاخفاق المحقق لتجارب التنمية و التصنيع.
و ربما أن هناك فارقا مروعا بين العلاقة العاطفية للصحفي المذكورمع أنصاره، و الواقع الموضوعي الذي لا يريد ان يتذكره و لا يريد أن يبذل أي جهد فكري لتتبع أخباره في مناطق الريف و جبالة و الفرضيات العلمية المرتبطة بوجودهما كجغرافية، و ككيونة و كهوية، و المتعلقة ببدايات البحث عن مسار الخلاص من مجالات الصراع من أجل البحث عن بدائل التنمية الحقيقية و المستدامة.
إن المرارة التي تدعونا للتعامل مع مناطق “اقتصاد القنب الهندي” بنوع من الموضوعية الموجعة، لازالت تقوم على مبدئين أساسيين: المبدأ الأول، هو ما تجرعناه من سم التخلي عن تحرير كل المناطق المستعمرة و الانسحاب من جبهة المقاومة؛ و المبدأ الثاني، هو دفن الخيار المغربي الوحدوي، التنموي و الاقتصادي و الثقافي.
هكذا، و في سياق تاريخي معين، تم استبعاد الريف و جبالة و مناطق أخرى من المغرب العميق من دائرة الاستفادة من خيرات الوطن، بل و تمت ملاحقة و معاقبة كل فرد أو جماعة يطالب بحقوقه أسوة بكل جهات المملكة، و توج خلفاء الامتيازات سياستهم هذه بمعاقبة جماعية لهذه المناطق، و التاريخ شاهد على ذلك…
و معلوم كذلك، آن أحلام و تطلعات المغاربة جميعا، في أغلب هذه المناطق، لم تتحقق في ظل نظام ما بعد الاستقلال، و هذا يجب إن نعلمه لكل الأجيال الصاعدة حتى تعلم أن المشكل الحقيقي ليس مع الدرك الملكي، بل مع الفقر و الجوع و العطش و الهشاشة و الاستبعاد الاجتماعي.
إن “اقتصاد العتمة” و “اقتصاد الحدود” و “اقتصاد الريع” هو ما يهمنا من موضوع ما صرح به أحد المسؤولين الباميين، لأن عوائد هذه الأنواع من الاقتصاديات أصبحت على شكل رشاوي أو فرص، و أداة منهجية في تحقيق أهداف السياسة التي اتبعت على مدار قرن من الزمن، و بشكل أساسي في تثبيت الوضع القائم و شراء سكوت النخب و بناء أحزاب و قوى سياسية مهمتها إفساد الدولة ومؤسساتها.
لقد ظلت العديد من مناطق الريف و جبالة ممنوعة من الحق في التعبير، و من الحق في التنمية المستدامة، و أدت الثمن باهظا. فما العيب في الدفاع عن هذه المناطق؟
إن ما ورد في إحدى مقالات الإعلامي المقصود ، يميل بشكل مفضوح إلى إسباغ الغموض على نظرتنا إلى الواقع. و نتساءل أيضا عما إذا كان خطابكم هو الذي يحرض فعلا على العنف. و الجواب عن ذلك هو نعم بداهة.
إن الشعارات الديماغوجية التي يطلقها في مقالاته المتككرة، تختبئ وراء الدفاع عن المؤسسات الرجعية و المحافظة، و تتناسى التمايز الطبقي في صورته الجديدة بين الشمال و الوسط. و هو ما يولد صراعا طبقيا حقيقيا تزداد حدته على مر الأيام، تخوضه جماهير الفلاحين الفقراء ضد من يستغلهم و يضهدهم.
لقد أصبحت قضية زراعة القنب الهندي و تحرير الفلاحين قضية و طنية، كما أنها مشكلة لا يمكن حلها بزغاريد صحفية منحازة للتحالف الممأسس ضد الفلاحين و العمال الزراعيين الفقراء. و لهذا، فإن مهام الدفاع عن الريف و جبالة لن تقل، بل ستتزايد، و أن ما يقوم به حزب الأصالة و المعاصر الآن لا زال في بدايته.
طبعا، لن نطالب بإطلاق حرية التنظيم السياسي لهؤلاء المزارعين، و لن نطالب بإلغاء القوانين و التشريعات المقيدة لحريات التنظيمات السياسية الجهوية، و لن نترككم تتهمون المناضلين بالعداء للدرك أو لرجال الأمن..فالعدو الرئيسي تعرفونه جيدا: انه الحكرة.
و لا شك أن غياب الدور القيادي لهؤلاء الفلاحين المزارعين هو السبب في تعطيل الإصلاحات الضرورية و المستعجلة المطلوبة.
إن التاريخ يلقي على عاتقنا اليوم مسؤولية كبرى و هي إعادة بناء الأحزاب السياسية على قاعدة مصالح فئات واسعة من أبناء الشعب حتى يصبح للنضال الحزبي و السياسي له معنى، و لكي تلعب هذه الأحزاب الأدوار الحقيقية المنوطة بها. اذ أن نضالنا في السنين السابقة كان يراعي الإمكانيات الراهنة. و قد ازدادت اليوم هذه الإمكانيات زيادة كبرى، فمن الواجب أن تزداد مطالبنا علوا و بعدا و أن يرتفع مستواها بنسبة ازدياد إمكانياتنا النضالية.
و لهذا،فالضغط الشعبي لا يضر الحكومة عندما تكون تدافع عن الشعب. و كل حكومة تبقى مذعورة من الضغط، إذا كان نقص الصدق في سياستها.
إن ما يهمنا أساسا من هذا الرد هو أن نوضح بأن الأمر يتعلق بالدفاع عن قضية الاعلام الموضوعي بحثا عن الحقيقة الغائبة في الريف و جبالة، و أن موضوع الكيف و “الجدارمية” و المخزن و الحكومة و الدولة، هو موضوع مشترك بين كل المغاربة، و لا يتحمل التأجيل و المزايدة. أما التهافت على استغلال التقارب و التناغم الصحفي مع الحزب الأغلبي و تصفيات حسابات سياسية ذاتية لا علاقة لها بالإعلام المسؤول و الملتزم بقضايا الشعب، لن يزيد المعركة الا الغليان و الهيجان.
فطبيعي جدا أن يدافع حزب الأصالة و المعاصرة عن الوطن و أرجائه، و من مسؤوليتنا نقد المؤسسات من أجل إصلاحها، و من صلاحيتنا التنبيه إلى قطع الروابط بين المغاربة و التعامل مع القضايا الأساسية للحياة الاجتماعية. و من حقنا النضال من منطلق التحدي المستمر إلى حين الإنصاف و المصالحة الشاملين.
و أخيرا، ربما كان على الإعلامي المقرب من الحزب الحاكم، أن يدعو إلى ندوة في الموضوع بحضور الفاعلين الأساسيين و المهتمين و المتخصصين، و سنكون مسرورين بالمشاركة معكم لإبداء رأينا في الموضوع انطلاقا من إيماننا بالمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية التي تقر بالحق في التعبير و الرأي، و يشمل هذا الحق حرية التماس مختلف ضروب المعلومات و تلقيها و نقلها للآخرين