لنخدم الشعب
المريزق المصطفى
في منتصف الطريق، يطل علينا الزمن السياسي المغربي بمسلسل جديد من المسلسلات السياسية القديمة، من دون تحقيق حلم الانتقال الديمقراطي لبناء دولة الحق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي.
وليس ما هو مكتوب اليوم على سبورة الحكومة من أولويات، إلا نموذجا لظاهرة طبيعة الصراع المرحلي المنحط ، على ضوء تضخم الأزمة وصمت الفاعلين.
إنها حقيقة مرة تعيشها قوى التغيير في ظل الانحسار الديمقراطي اليوم، وتحوله إلى حالات مرضية، يراد منها قتل ما تبقى من الأمل لدى عامة الناس، ذلك أن الصراع الذي يعبر عن نفسه بأشكال جديدة اليوم، ما هو إلا استمرار لنفس الصراع الذي شهدته بلادنا منذ عقود من الزمن. صراع بين الشعب وبين التحالف الإصلاحي اليميني، في غياب القوات الشعبية والقوى التقدمية التي ولدت من رحم الكفاح الوطني من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي، والنضال الممانع من أجل إرساء دعائم المجتمع الحداثي الديمقراطي، في ضوء طمس حقيقة الصراع الطبقي بمغرب اليوم ومحاولة إخفائه.
كما أن استغلال الرأي العام وتزييف الحقائق والوقائع، وشن الحرب على القوت اليومي للجماهير ومحاولة جر البلاد للهاوية، من خلال مناهج واختيارات لا شعبية، تزيد من ضبابية الفرز الحاد بين الطبقات الاجتماعية في بلادنا، وتدفعنا لفضح عملية الرشح الطبقي من هذه الطبقة الاجتماعية إلى تلك، ومن هذه الفئة إلى نقيضها.
وإذا كنا اليوم جميعا قد انقسمنا على نفسنا، فالخوف كل الخوف أن يكون هذا الانقسام لا يعدو توزيع أدوار من أجل اقتسام “الحلوى” التي لم ينم حجمها بتناسب مع تزايد عدد الطامعين في حصصها، ويقع لنا ما وقع لعباس محمود العقاد!
فمنذ رحيل زعيم الإنصاف والمصالحة المغربية، المرحوم إدريس بن زكري، تاركا وراءه أحلام الكبار والصغار، وتجارب العبر ومخاض التغيير الاجتماعي الذي أدى فاتورته غالية، وصلت قيمتها 17 سنة من السلب والجمر والرصاص؛ والمغاربة ينتظرون مصالحة حقيقية بين الدولة والوطن، في مسار استكمال المصالحة الشاملة والقطع النهائي مع الماضي الأليم.
ففي مسار نضاله، اختار الراحل بن زكري أن يكون في قلب التحولات العميقة لمغرب العهد الجديد، بنفس حقوقي وأفق اجتماعي وإنساني، يفتح الطريق لدولة المؤسسات ودمقرطتها، في حوار مفتوح مع الدولة لقيادة الجزء الأحمر من ذاكرة جيل المطالبة بالدولة الاجتماعية و بدولة المساواة والحريات..
لكن، وللأسف، بدلا من تكريس نهج المصالحة الوطنية في مشاريع الانتقال من الوجع إلى رد الاعتبار، استغل أعداء الإصلاح وضع الاستقرار للانقضاض عليه، وفتح أبواب جديدة للنهب والريع والفساد على حساب الوضع الاجتماعي للمواطنين.
واليوم، وبعد شيخوخة جيل كامل من الديمقراطيين والتقدميين، هاهي الجماهير الشعبية تنتفض لوحدها، وتصب نار غضبها على الفاسدين وناهبي الخيرات الوطنية، تعبيرا عن السخط الشعبي الرافض لسياسة أمر الواقع وفرق تسود تحت شعار ” المال والأعمال والسياسة”، بعيدا عن الأحزاب السياسية والسياسيين ومن يدور في فلكهم.
ولعل ما يثلج الصدر، هو فزع طبقة كاملة من الليبراليين المتوحشين، ومعهم طبقة التكنوقراط الجدد ونخب المركز، من الفعل الاجتماعي التحرري الذي تقوده “المقاطعة” كمنظومة للتغير الاجتماعي، وكقوة ضاربة للتنظيم الشعبي، وكثقافة للعمل الميداني السلمي، ضدا على مخططات ومشاريع فاشلة أعلنت عنها الحكومات السابقة والحالية، مثل أكذوبة “المخطط الأخضر”، والجميع يعرف من استفاد من هذا المخطط المخزي.
والغريب في الأمر، هو بعض الساسة المعروفين في أسواق الريع الوطني والدولي، وفي البورصة السياسية والدينية والنقابية، هم كذلك يتحدثون عن الوضع الاجتماعي للمواطن البسيط، ويتغنون بشعارات كاذبة، ويتبجحون بمواقف ليست لهم، وكل هذا من احتراف الكذب والتضليل.
إن حملة المقاطعة، هي وجه من وجوه مكتسبات الراحل إدريس بن زكري الذي أرسى النضال السلمي على أرض الواقع المغربي الملغوم بسياسة الأعيان كقوة سياسية، وهي وجه جديد من التمرد الاجتماعي ضد غلاء العيش، وتردي الأوضاع الاجتماعية وفقدان الأمل. وهو ما يدعونا جميعا لخدمة الشعب الآن وغدا..
نعم، كبرنا وكبرت معنا الآهات والأحلام، وانتظرنا الفرج طويلا، وودعنا الراحل بن زكري وأحلام جيل كامل من رفاقه وأصدقائه الذين ساهموا معه إسهاما محترما في وضع الحجر الأساس للمصالحة الحقوقية، و دعائم أوراش العهد الجديد. لكن يبدو أن هناك شيء ما اعترض سبيل المصالحة الكاملة والشاملة، والانتقال الديمقراطي، والعدالة الانتقالية، وحول المسار إلى وضعية الخوف والغموض من الواقع والمستقبل.
أو ربما لم يستطع الراحل بن زكري، إبرام التزامات وتعاقدات واضحة مع الدولة، تقر بضرورة المصالحة السياسية والاجتماعية لعموم الشعب، وليس فقط لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان و للمعنيين بجبر الضرر الفردي والعائلي.
ومهما يكن، تبين في ما بعد، أن للدولة أولوياتها، وأن زمن المصالحة سقط جزءه منه في الماء، والجزء الثاني لم يستطع أن يحصن ذاته، رغم المؤسسات التي أنشئت لهذا الغرض.
وربما يتبين اليوم للجميع، ومن دون مبالغة، أن جيل بن زكري/ جيل الإنصاف والمصالحة، وجيل أوراش العهد الجديد، وكل القوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية، في حاجة إلى حوار جاد وتاريخي، من أجل ثورة هادئة تكون فيها المصلحة العليا للوطن في خدمة الشعب المغربي الذي بات مهددا بفقدان الصواب بعد أن نفذ صبره.
ومن هنا ستبدأ المسيرة الثانية إلى كل ربوع الوطن هذه المرة، وفي المقدمة كل مناطق مغرب الهامش/ المغرب القروي، من أجل الحق في الثروة الوطنية والعدالة المجالية و البنيات الأساسية ( التعليم، الصحة، السكن والشغل). هذه المسيرة يجب أن يقودها جيل العدل والمساواة والحرية، من الشباب وكفاءات وأطر ونساء، ” جيل الصفحة البيضاء”.
إن تنزيل هذا المعنى السياسي والاجتماعي، في لبوسه الإنساني ليس بالأمر الهين. إنه يحتاج لإرادة سياسية من قبل الدولة، ولوسائط مجتمعية جديدة، قادرة على طرح البدائل ومشاريع الإنقاذ، وليس إلى تكريس واقع الأزمة بالتنابز والتراشق الحزبي المخزي.
إن الكثير من الفاعلين السياسيين لم يدركوا بعد أن الأسباب التي جعلت الجبهة الديمقراطية التقدمية ببلادنا تفشل، هو غياب الإيمان بمشروع المساواة في الأوضاع كشر أول، والحرية السياسية كشر ثان. وهذا ما نريد فيه مواقف واضحة ورهانات حقيقية والتزامات مسطرة.
ولهذا وجب الاعتراف بالجهد الذي بذله كل شرفاء هذا الوطن، والوفاء لمن ضحوا بحياتهم من أجل الدولة الاجتماعية، أولئك الذين ساهموا في إخراج البعض من الغبن واليأس والإحباط والفقر العاطفي والمادي، ليصبحوا بين عشية وضحاها زعماء ورؤساء وقياديين بارزين، بفضل آخرون كانوا حطبا لتدفئتهم، وقنطرة عبور لمن لم يستطع أن يعبر الوديان والأنهار خوفا من الغرق.
نعم لمواجهة اليأس ومواكبة أورش إصلاحات العهد الجديد، لكن من موقع النضال الشريف والنبيل، وليس من موقع تكريس الاستبداد والسلطة والسيطرة.
إن سلطان المال، لابد له من الزوال مع انهيار قيمة صرف العملة، بعد موجة المضاربات المحمومة، وهو ما يدفع وسيدفع جماهير الشعب المغربي للغضب والاحتجاج على انهيار مستوى المعيشة، إذا لم تتحمل الحكومة مسؤوليتها.
كما أن ما ينتظرنا كمناضلين، هو التعبير بوضوح عن ما يقع اليوم في المغرب. إنه المفصل بيننا من أجل إعادة الثقة، ومن أجل الاستمرار في الانتماء للوطن، والسير قدما نحو المصالحة، والتخلص من حكومة الحماقات، ومن احتكار الثروة والمناصب والسلطة والجاه، وإصلاح الأنظمة الحزبية ببلادنا وجعلها في ثلاث أقطاب على الأكثر، بدل تكريس التعددية المخجلة والفاسدة، على حساب روح الوطن والشعب.