المجتمع الديمقراطي وواقع الممارسة
بقلم عبد المنعم الكزان .
كيف يمكن أن نبني مجتمعا بلا ظالمين؟ أليست الديمقراطية الانتخابية صراع الأقوياء من الفواعل، التي تتمترس وتتخندق خلف دوائر الشرعية المغلفة والمزيفة ، بوهم المعرفة وايدولوجيا “الدين والتاريخ” و”العائلة والقبيلة” و “دوائر المال والقوة” في الدفاع عن مصالحها ؟ من يمثل الهائمين في الأرض من المفقرين والمهمشين ؟
أما آن الأوان للتحول من إرتكاسية الايدولوجيا ! إلى إرتكازية المشاريع!،؟ كيف يمكن توقيع هابيتوس جديد يقطع مع أنماط إنتاج رساميل ثقافية لخطابات حزبية، ينبني على أشكال السرديات الأسطورية والتاريخية، وعقلية التخوين، حتى نتصالح مع العقول والأجساد والأرض؟ .
لا شك أن جوهر الديمقراطية هو الحرية، ولا حرية إلا بوجود التنمية، فهذه الأخيرة هي التي تساهم في بناء الإنسان المنفلت من كل أشكال الهيمنة والسلطوية ، و العنف على الأجساد و العقول تحت سلطة الرساميل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والرمزية.
إن نظرة متفحصة لواقع التنظيمات الحزبية ، تبرز بشكل جلي واقع التكتلات المصالحية، وأشكال القرابة، في مقابل خطاب وممارسة ينبنيان على أسلوب المزايدة، وإعادة إنتاج نفس نمط الإنتاج الثقافي الذي يتغنى بتمجيد الماضي وخطاب المؤامرة ، وشعب الله المختار، هذا الخطاب يعيد بناء نفس الاستعدادات البعدية للمنخرط الحزبي، التي تعيد اجترار نفس الخطابات ونفس عقد الماضي ، بالشكل الذي يحافظ على استمرار نفس النخب، ونفس العائلات داخل التنظيمات الحزبية، ومؤسسات الدولة ،بشكل مفارق مع بنية المجتمع ، وهذا يساهم في تكريس واستمرار القطيعة بين مؤسسات الدولة و المجتمع ، إما بشكل واعي أو من خلال لا وعي المنخرط الحزبي ، والذي يعيد إنتاج نفس نمط الفاعلين السياسيين، هذه المعطيات السوسيولوجية والسيكولوجية هي التي أسهمت في بناء أفراد مكبلين في وعيهم الجمعي، كما لا ننسى أن التحولات العولمية أسهمت في تشكل إنسان الاستعراض والفرجة المدمرة لإنسانيته .
ورغم الإصلاحات المتقدمة التي جسدت في الوثيقة الدستورية ، فإن واقع الحياة السياسية يِؤكد بالملموس أن الحزب الحاكم ومعه الأغلبية، لم تستطع أن تفرز لنا نخب سياسية قادرة على بلورته ، خصوصا بعد الأحدات التي شهدتها المملكة طيلة سنتين بدءا بالريف وزاكورة وجرادة، ثم بوادر تشكل وعي إحتجاجي تجلى في مقاطعة جزء ليس باليسير للمغاربة لبعض المنتوجات الاستهلاكية كسلوك مدني جديد ، إن الضغط الاحتجاجي وضعف النخب السياسية جعل البعض ينادي بأسبقية التنمية الاقتصادية في بناء المجتمع الديمقراطي ، والحال أن تأخر التنمية مرتبط بالشق الثقافي الاجتماعي كأساس للديمقراطية؛ فالديمقراطية ليس مفهوم إجرائي مرتبط بالانتخابات، والتي لا تمثل عموم المغاربة على أي حال، وهذا واقع تؤكده النسب المتدنية للتصويت من جهة، ومن جهة أخرى تعرف الديمقراطية كمفهوم ينبني على الحقوق الكونية ودولة المؤسسات،وأخلاق الواجب والمواطنة؛ صحيح أن المطالبة بالتنمية هو جوهر الاحتجاجات التي شهدها المغرب، لكن كل تنمية بدون مؤسسات ديمقراطية يعتبر مغامرة خطيرة بالوطن، فلا تنمية بدون تكريس الديمقراطية، وترسيخ الحكامة والشفافية، وإسقاط الفساد وتكريس العدالة الاجتماعية والمساواة البشرية و المجالية عن طريق ألامركزية ، وهذا يقتضي تقديم مشاريع وبرامج تعنى بالشق الاجتماعي بالدرجة الأولى كركيزة للنموذج التنموي الجديد ، من أجل ضمان إقلاع سياسي وإقتصادي يكون مأمولا في إطار شمولي هوليستي ، ويضع في الحسبان السياق الإقليمي والدولي و خصوصيات العالم المعولم، مما يسهم في الاستفادة من الفرص التي تقدمها التحولات الدولية ، وهذا لن يتحقق إلا بتوفر مجموعة من الأسس أهمها، مؤسسات ديمقراطية قوية، و إشراك المواطن بشكل واعي و مسئول ومشارك في اختيار النموذج الذي يريد.
إن السياسة الاقتصادية المرتكزة على دعم الطلب الداخلي، والتي استمرت لما يقارب عقدين من الزمن أثبتت فشلها، كما أن المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها العالم بعد الأزمة العالمية في إطار الليبرالية الجديدة ، يقتضي التركيز على المجال الصناعي والاقتصاد الرقمي، حتى نتمكن من المنافسة على مستوى الصادرات وتشجيع التجارة الخارجية ، وهذا يقتضي حكومة مسئولة وشجاعة و متضامنة في تحمل مسؤوليتها السياسية، حكومة تمتلك الحس التشاركي بعيدا عن طموح الهيمنة والسلطوية وخطاب المؤامرة .
إن آليات الرقابة، سواء البرلمانية أو الحكومية، و طريقة التعاطي مع الخلاصات التي قدمتها لجان تقصي الحقائق التي ظلت مركونة في الرفوف، يدل على أن هذه الاليات لا تتجاوز دور التنشيط السياسي، والمزايدة السياسية على أبعد تقدير مما يفقدها النجاعة والمصداقية، ويكرس نظرة المجتمع إلى المؤسسات (التمثيلية والتنفيذية)، على أنها غير قادرة على كشف الحقائق، وإدانة المقصرين والمفسدين، بل أخطر من ذلك أصبح البعض ينظر إليها باعتبارها وسيلة لحماية الريع والفساد، كما أن التعديل الحكومي الأخير لم يتخلى عن منطق الغنيمة و الكوطا الحزبية دون أدنى اعتبار للمسؤولية التقصيرية .
وفي الأخير يمكن القول أن أي تنمية بدون مؤسسات ديمقراطية هي مغامرة خطيرة بالدولة، ولا ديمقراطية بدون مؤسسات قوية وذات مصداقية، و أيضا لا ديمقراطية بدون نظام فصل السلط، وهيئات تسمح بمشاركة قوية للمجتمع المدني وحرية الصحافة والإعلام، فالتنمية ليست مقاربة كمية ورقمية، بل هي قبل كل شيء تمظهرات، وانعكاس على المعيش اليومي للمواطن المغربي، فلا نمو إقتصادي بدون عدالة اجتماعية وسياسية، وحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة، وتكريس الدولة المدنية عن طريق تفعيل هذا الدستور التقدمي، كرافعة لبناء دولة القوانين والحقوق والواجبات والحريات، وتكريس المحاسبة والمسائلة في تحمل المسؤوليات، وبالتالي فأن وأي تعسف بفصل الشق الاقتصادي عن الشق السياسي أو الاجتماعي والثقافي، هو مخاطرة ومغامرة غير محسوبة العواقب وتكريس للعشوائية وتعميق لأزمة التدبير والتسير وعرقلة بناء المجتمع الديمقراطي.