السترات الصفراء بفرنسا ماذا وراء المطالب
الشاوي سعيد
باضمحلال دائرة الفلاسفة والمفكرين والمثقفين اللذين لا يخرجون من الأرض كالفطر،الباحثين عن التغيير للأفضل وفهم الجوهر والمظهر وبتحول الشركات الكبرى إلى البحث في الظواهر والمظاهر لتطوير الإنتاج وتحقيق الربح وتضائل عدد المفكرين والمثقفين الثوريين حتى أن العديد منهم مات دون أن يعلم برحيله احد أو يكرمه احد،يمكن أن نقول أن تكسير الأصنام والعقائد الجامدة أصبح أولوية حتى لا يفاجئنا الواقع الذي لن يعبا بتخلفنا وردتنا وسيواصل مسيره الحتمي إما للبربرية المطلقة أو بناء الإنسان المبدع الحر.
I–
حركة السترات الصفراء موجودة في العديد من البلدان بما فيها العربية ،لكنها كانت قوية واضحة ومؤثرة بفرنسا نظرا لتاريخ هذا البلد وتركيبته الاجتماعية ونظامه السياسي.هذه الحركة بفرنسا استطاعت أن تكشف بالوضوح المطلوب لأي ملاحظ عن واقع متجاوز متقادم لم يعد مقبولا في شتى الجوانب ،السياسية ،الاقتصادية ،الاجتماعية ،الحزبية ،المدنية ،النقابية ….
سأتناول هذه الحركة من الجانب الذي يبدو لي انه لم يتم التركيز عليه والمتمثل في واقع التنظيمات السياسية والنقابية والمدنية ،فجل القراءات المقدمة في هذا الموضوع تناولته من حيث مطالب الحركة وتطلعاتها الاجتماعية والسياسية ولم تتعرض له من حيث اعتباره استنكارا ضمنيا لواقع حزبي ونقابي ومدني متجاوز ،متناقض وبيروقراطي قاتل ،من حيث اعتبار هذه الحركة ترفع شعارا ضمنيا يدعو إلى مراجعة وإعادة صياغة وإعادة بناء الواقع الحزبي والنقابي والمدني الذي ينتقد كل محيطه لكنه لا ينتقد نفسه إلا لماما .
الواقع الحزبي والنقابي على ضوء حركات السترات الصفر مطالب بالقيام بثورة تمكنه من استيعاب التطورات العلمية والتحولات الاجتماعية والطبقية خاصة على مستوى الطبقتين الرئيسيتين أي المنتجة للثروة والمستحوذة عليها ،هذا الواقع الحزبي والنقابي والمدني اليوم هو مطمئن لأدواته والياته وأجهزته المغرقة في البيروقراطية والإقصاء والشكلانية.
من غير المفهوم أو العلمي أن تكون لمواقع التواصل الاجتماعي هذه القدرة على التعبئة والحشد لشرائح متعددة وتجعلها جاهزة لمواجهة ومنازلة خصمها كان دولة آو حكومة ،وتعجز عن ذالك تنظيمات حزبية ونقابية ومدنية متمرسة ،لهذا يبقى من المفروض طرح أكثر من سؤال حول عدم قدرة الأحزاب من شتى فصائلها وتوجهاتها خاصة منها اليسارية في تأطير هذه الحركات واستيعابها وقيادتها.
السترات الصفراء انتظمت وطورت حركتها ونزلت للشارع للتعبير عن مطالبها خارج الأحزاب والنقابات والجمعيات ،يعني خارج الأدوات التنظيمية التقليدية،واستطاعت أن تقنع الآلاف من الفرنسيين لاحتضانها والانخراط فيها كما فرضت على الأحزاب والنقابات أن تلهت ورائها بحثا عن موطئ قدم وسطها أو بجنبها أو ورائها .
كل زعماء اليسار كانوا مثيري للشفقة خاصة بعض الرموز مثل Jean Luc Mélenchon لفرنسا الأبية أو Olivier Besancenot المناهض للرأسمالية حيث كانوا يلهثون وراء السترات الصفراء موزعين بين الرغبة في التوجيه والعجز عن التوجيه، بين كل السلط للسترات الصفراء والمحاولة اليائسة لتحديد سقف سياسي لها، وما يكشف العجز على استيعاب الحركة التي يعتبر الخيط الرابط بين كل أطيافها هو رفض التوحش النيولبرالي هو محاولة Marine Le Pen زعيمة الحزب الفاشي هي الأخرى الركوب على الحركة رغم الوضوح الصارم برفضها من طرف قادة السترات الصفراء.
لن ادخل في نقاش طبيعة المطالب وتنوعها وعمقها السياسي والاجتماعي رغم أن الملاحظ في هذه الحركة هو تنوع مطالبها التي تعكس تنوع الشرائح الاجتماعية المنخرطة في، عمال، فلاحين، طلبة، موظفين…يعني أن الحركة تضم اغلب شرائح الشعب الفرنسي المفقر من طرف النيولبرالية.
لكن سأتوقف فقط عند دور التنظيمات التقليدية الحزبية ،النقابية والجمعيات المدنية التي فرض عليها حمل السترة الصفراء حتى لا يتجاوزها الركب،هذه التنظيمات التي فرض عليها الواقع أن تكتشف كما حكومة Emmanuel Macron أن جل شرائح الشعب الفرنسي المفقر غير راضي على واقع الحال وأنها استطاعت عبر وسائلها الخاصة أن تخلق أذواىتها الخاصة للنضال وتنزل للشارع بكل حزم وإصرار ووضوح لتسمع صوتها.
نظرا لتاريخ البلد والفرز السياسي الواضح في طبقاته وطبيعة نظامه الديمقراطي البرجوازي غير القادر على إجهاض هذه الحركة بإغراقها في الدم والنار كما هو حل بلدان الاستبداد تستطيع هذه الحركة أن تصل إلى أقصى مداها من الوضوح والأثر والتداعيات وتفتح أفاق الصراع السياسي بفرنسا والعالم على آفاق جديدة كانت محبوسة إلى حين وان تحرر الفكر الثوري من الكسل الذي عشش فيه بسبب النعم التي أغدقتها عليه البرجوازية لتحيده من الصراع ،مما يسمح لنا بطرح سؤال بهذا الخصوص واضح ومتكامل، لماذا نمت هذه الحركة خارج أسوار التنظيمات التقليدية، لماذا فاجأت جميع الأحزاب وأساسا منها اليسارية ،النقابات والجمعيات المدنية كما الدولة،رغم أن هذه الحركة لم تختر النضال خارج الأنماط التقليدية، لكنها تهيكلت في اللون والوعي خارج هذه التنظيمات،بكل تأكيد هذا السؤال يجب طرحه بكل ملحاحية ليس من اجل استعادة هذه الحركة لسرير التنظيمات التقليدية التي من المفروض لن تختلف على مطالبها، بل من اجل الانتباه إلى كونها دقت ناقوسا حول واقع تنظيمي ،ثقافي،سياسي وتقاليد استقرت وتكرست في أعماق أعماق التنظيمات الحزبية والنقابية والجمعيات المدنية أصبح غير فعال غير مجدي وبدون جاذبية ولا تأثير ،عليه أن يراجعه بكل هدوء وبعمق حتى يكون قادر على استعادة مكانته وموقع ودوره النضالي والفكري،الجواب السطحي كون هذا واقع ويجب التعاطي معه بايجابية كونه حركة جماهير مظلومة ومضطهدة غير مفيد ولا مجدي.
حركة السترات الصفراء بفرنسا ليس بمقدور الأحزاب ولا النقابات بثقافتها وتقاليدها الحالية أن تستوعبها ،لان هذه التنظيمات أصبحت غارقة في البيروقراطية والكسل والرتابة،قادتها محاطون بأجهزة تعيد إنتاجهم وتكرس الإلغاء والجهل،فهناك من يحاول أن يصور حركة السترات الصفراء كما حركات مشابهة لكن اقل وضوحا في بلدان أخرى ،كونها عفوية ويحركها الغضب اعتمادا على منهجيات في التحليل هي الأخرى متجاوزة، لأنها ترتكن إلى أدوات منهجية تحدد معنى العفوية والتنظيم بطريقة نمطية متجاوزة ومتخلفة حتى ،علما أن حركة السترات الصفراء أكدت أنها أكثر الحركات الاجتماعية تنظيما وديمقراطية وقاعدية ،استطاعت أن تدمج بين أساليب تنظيمية تقليدية وحديثة وتخلق نقاشا عموديا وأفقيا واسعا وعريضا يغطي جميع التراب الفرنسي وجميع الشرائح الاجتماعية المتضررة ويخترق الأحزاب والنقابات وجميع أشكال التنظيم الجماهيرية ،اعتمدت المرونة وحرية المبادرة والتنوع المطلبي والنضالي كل قائد مسؤول أمام خليته ،لهذا جاءت قوية مزلزلة فرضت على الجميع أن يلهث ورائها بحثا عن موقع فيها يدعو لها بالتوفيق والنجاح ويؤكد على حقها في السيادة على نفسها ومصيرها حتى البرلمان الفرنسي الذي فقد مع الزمن جذوره الطبقية استعادها عبر التناقضات التي اخترقته بسبب هذه الحركة سواء بين الكتل البرلمانية أو بين الكتلة الواحدة.
ظهور الأحزاب والنقابات وأدوات أخرى نضالية وتنظيمية للمجتمع المدني كانت له في الأصل مبررات تاريخية وله مبررات فلسفية وثقافية ،لكنه اليوم بتحول المثقفين خاصة منهم اللذين تؤرقهم هموم شعوبهم وشعوب العالم التواقة للحرية والتحرر إلى مجرد موظفين عند مكاتب دراسات دولية ومساهمين في مختبرات الشركات الكبرى عبر إبداء الرأي والمشورة أو منشطين بقنوات إعلامية صغيرة وكبرى،تحولت هذه النقابات والأحزاب والجمعيات إلى نوع من التكنولوجيا تفرض تحديد الهدف والأرضية والأجهزة لتنطلق في الاشتغال بدون روح لأنها بدون خلفية فلسفية أو فكرية ،أصبح قادتها محاطون بالعديد من الأجهزة والوثائق وهي ليست سوى عبارة عن أواني لا يستعملها احد تغطي رفوف المطبخ بدون قيمة .
يبدو أن هناك لعنة أصلية تطارد الرأسمالية مهما تطورت ومهما اعتقدت في قدرتها على إلغاء كل عوائق الطريق،لكن يبدو أن طائر الفنيق ينهض حتما من رماده،لان الاستغلال له حدود سواء كان للإنسان آو للأرض وحتما حين تستنفد مرحلة ذاتها فإنها تفسح المجال لأخرى أكثر تجددا وأملا وقدرة على بناء الإنسان الذي بدو أن لا خوف على مصيره مهما اشتد السواد مادام الانتقال بين الألوان يفرض المرور من الأصفر.
الشاوي سعيد
12/12/2018