المشاركة السياسية وصنع القرار
بقلم قيس عبد الكريم (أبو ليلى)
نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية وعضو المجلس التشريعي
أكثر من أية حركة تحرر وطني أخرى، تشكل المشاركة السياسية في عملية صنع القرار الوطني بالنسبة لحركة التحرر الوطني الفلسطينية ضرورة حيوية. فالمشاركة الوطنية الشاملة في صنع القرار هي، في التحليل الأخير، الضمانة بعيدة المدى لصون وحدة ووحدانية التمثيل الفلسطيني. ووحدة ووحدانية التمثيل الفلسطيني هي المتطلب الرئيسي لاستمرار اعتراف العالم بالفلسطينيين كشعب، واستمرار اعترافه بالتالي بحق هذا الشعب في تقرير المصير. والاعتراف الدولي بحقه في تقرير المصير هو بالنسبة للشعب الفلسطيني أحد أبرز مقومات صموده في مواجهة المشروع الصهيوني الذي هو في جوهره مشروع تبديد الشعب بهدف شرعنة نهب الأرض.
صون وحدة التمثيل ووحدانيته تصبح أكثر إلحاحاً اليوم إذ تعصف بالإقليم من حولنا أعاصير مدمرة من الحروب الأهلية والأثنية والطائفية والصراعات الطاحنة بين المحاور الإقليمية المتنافسة. ولا يقتصر الأثر السلبي لهذه الصراعات على تهميش القضية الفلسطينية والمس بمكانتها على سلم الأولويات، بل هو يمتد إلى تسعير المطامع للامساك بالورقة الفلسطينية واستخدامها أداة بأيدي المحاور المتصارعة. ولأن الورقة الفلسطينية ليست محصنة بما يكفي، فإن التنازع عليها يزيد من تمزيقها ويعمق الانقسام بين مكوناتها، وهو ما يشكل خطراً ماثلاً على وحدة التمثيل الفلسطيني، وبالتالي على وحدانيته.
ليس جديداً تنازع “الورقة الفلسطينية” بين المحاور الإقليمية المتصارعة، فقد شهدنا من هذا فصولاً شتى عبر المسيرة الطويلة للثورة الفلسطينية. ولكن ما يميز الفصل الجديد، ويجعله أكثر خطورة، هو أنه يسقط على حال انقسام فلسطيني لم يعد يقتصر على تناحر بين قوى سياسية، بل بات يرتكز إلى واقع جيو سياسي يدفع باتجاه انفصام مكونات الكيانيه الفلسطينية وتمزقها. إن سيطرة حماس على قطاع غزة، وانزلاقها التدريجي نحو الانفصال به بعيداً عن المشروع الوطني الفلسطيني، بات يشكل أساساً مادياً لشق الكيانية الفلسطينية، وبالتالي تمزيق وحدة التمثيل الفلسطيني والإطاحة بوحدانيته.
هل ثمة سبيل لدرء هذا الخطر الوجودي وكبح المسار الكارثي الذي يدفع نحوه الانقسام الفلسطيني؟ نظرياً: اتفاق المصالحة الذي وقعته القوى الفلسطينية كافة في القاهرة، في الرابع من أيار 2011، يرسم خارطة طريق واضحة نحو إنهاء الانقسام. ويقوم هذا الاتفاق على معادلة “الوحدة على أساس المشاركة“. والمشاركة هنا لا يقتصر مفهومها على الشراكة بين القوى السياسية في عملية صنع القرار، على أهمية ذلك، بل هي ترسي هذه الشراكة على قاعدة أمتن بالاحتكام إلى الإرادة الشعبية، أي أنها توسع دائرة المشاركة لتشمل الشعب بأسره عبر انتخابات شاملة لكافة مؤسسات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية: الرئاسة والمجلسين التشريعي والوطني.
هي إذن مقاربة تقرن ما بين الوحدة وبين التجديد الديمقراطي المنبثق من إرادة الشعب. للوهلة الأولى قد يبدو أن هذا يجعلها بعيدة المنال. ولكن الحقيقة أنها المقاربة الوحيدة الواقعية والناجعة، وكل ما عداها من حلول فوقية يبقى هشاً ومعرضاً للانهيار. فلا وحدة إلا على قاعدة المشاركة في صنع القرار، وكلما اتسعت دائرة المشاركة (لتشمل الشعب كله) كلما كانت الوحدة أمتن وأبقى.
لا شك أن الطريق إلى تنفيذ هذه المقاربة تعترضه عقبات كأداء. بعض هذه العقبات، وهو الأصعب، ذو طابع موضوعي يتعلق بالإرادات الدولية واملاءات الاحتلال والأجندات الإقليمية، والبعض الآخر ذو طابع ذاتي يتعلق بالمصالح الفئوية وأجندات مراكز القوى والحسابات الضيقة قصيرة النظر. المقالة الشيقة التي يتضمنها هذا العدد للدكتور جورج جقمان تتناول عرضاً واقعياً لبعض أبرز هذه العقبات.
ولكن السؤال يبقى هو: هل نستسلم إزاء هذه العقبات ونسلم بالانقسام قدراً لا مرد له، أم نتحرى السبل ونبذل الجهد للتغلب عليها؟ إذا كان خيار “الاستسلام” مستبعداً، وهو ما ينبغي أن يكون، فما هي عناصر القوة التي ينبغي استنهاضها لصالح الخيار الآخر؟
أول هذه العناصر أن معادلة “الوحدة على أساس المشاركة” حظيت بإجماع وطني شامل عندما وقعت جميع القوى الفلسطينية دون استثناء على اتفاق القاهرة في 4/5/2011. ثمة من سيقول أن هذا الإجماع ظاهري فقط، وأن الأجندات المضمرة لجماعات المصالح ومراكز القوى المؤثرة في القرار، أو المهيمنة عليه، تدفع باتجاه إدامة الانقسام تحديداً بسبب نهمها للتفرد بالقرار ورفضها مبدأ المشاركة. وهذا التقدير صحيح تماماً، وهو ما يفسر كون الاتفاق الذي وقع منذ أربع سنوات ونيف ما يزال لم يجد بعد طريقه إلى التنفيذ.
ولكن هذا لا يقلل من أهمية الإجماع الشامل المعبر عنه بتوقيع الاتفاق. فهو من جهة يعكس إدراك القوى الموقعة أن هذا الإجماع هو تعبير عن إرادة الشعب، وهو من جهة أخرى يشكل التزاماً من هذه القوى أمام شعبها يسائلها عنه ويحكم وفقه على مصداقيتها. وهو ما يصلح قاعدة لاستنهاض ضغط شعبي، سياسي واجتماعي، على مراكز القرار القيادية لاحترام تواقيعها وتنفيذ ما تنطوي عليه من التزامات.
ثاني عناصر القوة يكمن في أن المصلحة العامة باتت تتطلب بإلحاح إنهاء الانقسام بما يفتح الطريق لإصلاح ديمقراطي حقيقي للنظام السياسي الفلسطيني. والمصلحة العامة تعني أولاً المصلحة الوطنية العليا التي تتمثل، من جهة، في أن الوحدة ضرورة لاستنهاض المقاومة والتصدي للعدوان العنصري الشرس الذي يشنه الاحتلال، بجيشه ومستوطنيه، ضد شعبنا وأرضنا ومقدساتنا، كما تتمثل، من جهة أخرى، في كونها ضرورة لدرء مخاطر التمزق الكياني وما يعنيه من تفتيت لوحدانية التمثيل الفلسطيني وانعكاساته المدمرة على الاعتراف الدولي بالحق الفلسطيني.
ولكن المصلحة العامة تعني أيضاً المصالح الحيوية المباشرة للأغلبية الساحقة من جماهير الشعب والتي تتعرض للإهمال والامتهان في ظل استفحال الخلل في آلية صنع القرار وما يقود إليه من انفلات لنزعات الاستبداد والتفرد. ففي ظل الانقسام، وبحجة الانقسام، أصاب الشلل المجلس التشريعي، وجرى تعطيل الاستحقاقات الانتخابية التي ينص عليها القانون الأساسي. فغابت الرقابة البرلمانية على السلطة، وأطيح بمبدأ فصل السلطات، وتمركزت كافة السلطات والصلاحيات، بما فيها التشريعية، بأيدي السلطة التنفيذية التي باتت مطلقة.
وترتب على ذلك تدهور حاد ومتواصل في حال الحريات العامة، سواء في الضفة الفلسطينية أو في غزة، تفصل مظاهره المفزعة التقارير السنوية والربعية الصادرة عن الهيئة المستقلة لحقوق المواطن، وهي مظاهر يلمسها كل مواطن من التعديات على حرية الرأي والتعبير، إلى التطاول على حرية الصحافة، إلى المس بالحريات النقابية، إلى الانتهاكات الفظة لسائر الحريات والحقوق التي يكفلها للمواطن القانون الأساسي ووثيقة إعلان الاستقلال.
ويزيد من وقع المأساة، أيضاً في كلا “الشطرين“، التخبط في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، الناجم عن الضغوط المتضاربة لجماعات المصالح ومراكز القوى، والذي يزيد من انكشاف الاقتصاد الوطني وتبعيته وانكماشه ويمس في الصميم المصالح المعيشية اليومية لأوسع القطاعات الاجتماعية التي تئن تحت وطأة الفقر والبطالة والغلاء.
لا يمكن وقف هذا التدهور بدون إنهاء الانقسام. أي سبيل آخر سيترتب عليه المس رسمياً (وليس واقعياً فقط) بوحدة النظام السياسي الفلسطيني بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر على مجمل المشروع الوطني. ولا سبيل لإنهاء الانقسام إلا باعتماد معادلة “الوحدة على أساس المشاركة” ووضعها موضع التطبيق وفقاً لخارطة الطريق التي يرسمها اتفاق المصالحة. بل أن هذا هو المدخل الواقعي للبدء في معالجة الأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني الفلسطينية. فلهذه الأزمة – دون ريب – عناصر وأبعاد عديدة، ولكن في القلب منها يكمن الخلل في آلية صنع القرار.
هذا الخلل ما ينفك يزداد استفحالاً ليس فقط بسبب استسهال إدارة الظهر للمؤسسات المعنية بصنع القرار، بل لأن هذه المؤسسات نفسها باتت تعاني من الترهل والتكلس، ولأنها شاخت “وطال عليها سالف الأبد“. الجميع بات اليوم يسلم بهذه الحقيقة، وان يكن البعض يقترح حلولاً جزئية لها باللجوء إلى ذات المؤسسات الشائخة لاستيلاد الجديد منها، وبالعودة إلى نهج التوافق بين فصائل م.ت.ف. وقد يساعد هذا في تسكين بعض مظاهر الداء، ولكنه قطعاً لا يقود إلى شفائه.
ما نحن بحاجة إليه هو تجديد ديمقراطي شامل ينبثق من إرادة الشعب المعبر عنها بانتخابات حرة نزيهة للرئاسة وللمجلسين التشريعي والوطني. ويجب أن تجري هذه الانتخابات وفق نظام التمثيل النسبي الكامل الذي يضمن مشاركة الجميع ولكن كل وفق وزنه الحقيقي بين صفوف الشعب. هذا ما يضمن اعتراف الجميع بعدالة العملية الانتخابية ودقتها في التعبير عن الإرادة الشعبية.
ومن المؤسسات المنتخبة تنبثق حكومة وحدة وطنية تعكس في تكوينها نسبة القوى الفعلية في المجلس التشريعي المنتخب. فنحن في خضم النضال من أجل التحرر الوطني لا نملك ترف تداول السلطة بين الأغلبية والأقلية، بل نحن محكومون لقانون الائتلاف الوطني الذي يكفل مشاركة الجميع ولكن كل وفق وزنه الحقيقي بين صفوف الشعب. وعلى المنوال نفسه: من المجلس الوطني المنتخب ينبثق مجلس مركزي جديد ولجنة تنفيذية جديدة يضمان كل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني ويعززان بذلك وحدة ووحدانية التمثيل المجسدة في منظمة التحرير الفلسطينية.
الدوامة التي تدور فيها مساعي إنهاء الانقسام اليوم تشجع على اقتراح مقاربة جديدة تقوم على أولوية إجراء الانتخابات بالنسبة لسائر استحقاقات المصالحة. نحن اليوم بحوزة حكومة وفاق وطني تعترف جميع القوى السياسية بصفتها هذه بصرف النظر عن تقييمها لأدائها. وإذا كانت هذه الحكومة عاجزة عن ممارسة سلطاتها في قطاع غزة، فهي يمكن أن تشكل المظلة السياسية لعمل لجنة الانتخابات المركزية إذا ما تم التوافق الوطني على الشروط الأمنية والسياسية – القانونية لإجراء الانتخابات في كل من غزة والضفة بما يضمن حريتها ونزاهتها. وحري بالقوى السياسية أن تفحص إمكانية تركيز الحوار الوطني على سبل التوصل إلى توافق بشأن هذه الشروط، بدل استمرار الدوران في دوامة الخلاف حول أولوية استحقاقات المصالحة.
هل يمكن إجراء الانتخابات بالرغم من العقبات والقيود التي قد يفرضها الاحتلال؟ التجارب السابقة أثبتت أن هذا تحد صعب ولكنه ليس مستحيلاً. هو ممكن إذا توفرت الإرادة الوطنية للتوافق على سبل التغلب على العقبات الاحتلالية، بالاستناد إلى دعم دولي جارف متوقع لهذا القرار الفلسطيني لا تملك إسرائيل أن تجابهه بالرفض الصريح. ولكن المهم أن تتوفر هذه الإرادة الوطنية! هذا هو المفتاح لتجاوز كل الصعوبات.
إلى جانب الشراكة بين القوى السياسية، والمشاركة الديمقراطية لجماهير الشعب، ثمة في النموذج الفلسطيني بعد ثالث لمسألة المشاركة السياسية يكتسب أهمية فائقة لكونه تحدياً رئيسياً في مواجهة المشروع الصهيوني القائم على تجزئة الشعب الفلسطيني وتدمير وحدة كيانه الوطني. هذا البعد يتمثل في ضرورة شمول المشاركة السياسية في صنع القرار الوطني لجميع تجمعات الشعب الفلسطيني على أرض الوطن كما في الشتات.
إقرار مبدأ اختيار هذه التجمعات لممثليها في المجلس الوطني بالانتخاب حيث أمكن، أو بالتوافق حيث يتعذر الانتخاب، يساهم في تأمين الحل للجانب الرئيسي من المشكلة. ويسهل تطبيق هذا المبدأ اعتماد نظام التمثيل النسبي الكامل في انتخابات المجلس الوطني، وهو ما أقرته اتفاقات المصالحة. ولعل من الجدير بقيادة م.ت.ف.أن تسعى إلى تأمين الحماية الدولية لهذه العملية باللجوء إلى الأمم المتحدة لاستصدار قرار يدعو دول العالم كافة لتسهيل ممارسة الفلسطينيين المقيمين على أراضيها حقهم في انتخاب ممثليهم في المجلس الوطني.
ولكن ثمة خصوصية لبعض التجمعات لا بد من أخذها بعين الاعتبار واجتراح الحلول المبدعة لمشاركتها. أبرزها ذلك الجزء الأصيل من شعبنا الفلسطيني الذي بقي متجذراً في أرضه ومتمسكاً بهويته الوطنية، في آن، في المناطق التي استولت عليها إسرائيل أبان نكبة 48. إلى جانب حق الاستقلال لفلسطينيي الضفة – بما فيها القدس – والقطاع، وحق العودة إلى الديار لفلسطينيي الشتات، فإن نضال فلسطينيي 48 من أجل حقهم في المساواة بالمواطنة وفي صون هويتهم القومية وانتمائهم الوطني الفلسطيني، يشكل الركيزة الثالثة من ركائز البرنامج المرحلي الذي يجسد الحق الفلسطيني في تقرير المصير في الظروف المعطاة للمرحلة التاريخية الراهنة. المساهمة الهامة التي يتضمنها هذا العدد للبروفيسور مروان دويري من الناصرة هي صرخة ألم تكشف الوجوه المتعددة للمعاناة المضاعفة التي يكابدها أبناء شعبنا داخل حدود 48. إسرائيل تريد لهم أن يتأسرلوا ويتنكروا لانتمائهم الفلسطيني، وتريد في الوقت نفسه إبقاءهم مواطنين من الدرجة الثانية ضحايا للإجحاف والتمييز العنصري. دويري يطلق النداء لضرورة الاعتراف بحق هذا الجزء المقدام من شعبنا في أن يكون شريكاً في صنع القرار الوطني الفلسطيني، وبخاصة أن هذا القرار له انعكاسات مؤكدة، سلباً أو إيجابا، على مستقبل ومصالح أبناء شعبنا داخل مناطق 48.
لا شك أن هذا النداء محق من حيث المبدأ، وعلى جميع القوى السياسية الفلسطينية أن تعترف بمشروعيته. فوحدة الشعب الفلسطيني لا تكتمل إلا بمشاركة فلسطينيي 48. ولا بد من إيجاد السبل التي تجسد هذه المشاركة. والآليات الكفيلة بتحقيق ذلك ينبغي أن تخضع لفحص وتمحيص دقيقين. ومن المؤكد أن الخطوة التاريخية التي أقدمت عليها القوى الوطنية الفاعلة في مناطق 48 بتشكيل القائمة المشتركة لانتخابات الكنيست هي محطة نوعية على طريق بلورة مرجعية تمثيلية شاملة لفلسطينيي 48، ما يسهل اجتراح الآليات المناسبة لمشاركتهم في صنع القرار الوطني.