مكتسبات الفكر الملكي التنموي
د. نعيمة المدني*
لقد تعززت في عهد الملك محمد السادس صورة المؤسسة الملكية كمؤسسة عالمة ذات رؤية نظرية و إمبريقية منقطعة النظير، ففي خطاب ثورة الملك والشعب ، أحدث جلالة الملك ثورة كبيرة في مفهوم العقد الاجتماعي ( بكل تنويعاته الاجتماعية ، الاقتصادية…) حيث نقله من البعد الوجودي الصرف إلى مستوى التواجد الواقعي للفرد، عبر النموذج التنموي الذي أراد له أن يكون منصة تشاركية ومشروعا وطنيا في ملك المجتمع المغربي قاطبة.
كما تفرد جلالة الملك، في خضم تقديمه لبروتوكول علمي لإعداد النموذج التنموي، بعرض حل منهجي يمكن أن تستفيد منه إبستيمولوجياً العلوم الاجتماعية التي تنعت كعلوم تاريخية، بالنظر إلى التحول المستمر للحاضر المتناول بالدراسة من قبلها إلى ماض، عبر اقتراح مناهج تصب كلها في المستقبل بعمق إجرائي كبير جدا.
حسب قراءة سوسيولوجية أولية، يتميز المنهج الملكي حول التنمية بروافدها المختلفة، من خلال حزمة مقاييس علمية دقيقة جدا، باعتماده على ثلاث خطوات أساسية غير مسبوقة، تراعي بشكل أساسي الحفاظ على الخصوصية المغربية ( ثقافيا، مجاليا، سياسيا..):
إذ تحيل عملية التقويم التنموي على مرحلة تشخيص بنيوي ووظيفي لوضعية كل قطاع جهويا ووطنيا و دوره، كل قطاع حسب طبيعته، في النهوض بجودة العيش (اجتماعيا ،اقتصاديا، ثقافيا…) بالنسبة لفئات المجتمع باختلاف خصائصها السوسيوديموغرافية، السوسيومجالية، السوسيواقتصادية … ، فضلا عن رصد وتقوية شبكة الفاعلين فيه، وذلك من خلال تحليل وتمحيص دقيق للبيانات، بشكل يمكن من تعديل وتحديد ما يجب تعديله، مع توفير الوسائل القمينة بذلك.
كما ترتبط عملية الاستباق التنموي بتحليل توقعي للاختلالات الوظيفية والبنيوية التي يمكن أن تشوب المسار التنموي في كل قطاع قبل حدوثها، وهي عملية وقائية وتأمينية تمكن من التصدي للمخاطر بشتى أنواعها، كما تتيح هذه العملية كذلك، سوسيولوجيا، وضع خطة قبلية للحد من تراكم الظواهر ( الاجتماعية، الاقتصادية…) السلبية. أما بالنسبة لعملية استشراف المستقبل التنموي، فهي تسمح بوضع الخيارات العديدة على كل (المستويات الاقتصادية، الاجتماعية…) جهويا ووطنيا استعدادا للتغيرات المرتقبة، مع إحداث لتغييرات أخرى متوخاة يمكن أن تكون بشكل تدريجي من أجل التأقلم واختبار الفعالية، كل ذلك مع توفير آليات المواكبة و التتبع لتظل عجلة التنمية في حركة أمامية دائمة.
من جهة أخرى، تفاعلا مع خطاب عيد العرش الأخير، ووفاء للنداء لملكي حول دور الكفاءات للرفع من أداء المؤسسات الوطنية كرافعة للتنمية، أعتقد أن هناك مؤسسات تحتاج إلى جيل جديد من الكفاءات خاصة في مجال العلوم الاجتماعية التطبيقية، التي تعد من العلوم التي قال عنها ماكس فيبر أنها يمكن أن تساهم في البناء العقلاني للفعل العمومي وتقلص كلفته على عدة مستويات، وأخص بالذكر المندوبية السامية للتخطيط، فرغم دقتها في حساب المؤشرات وتغيراتها، نجد أنها، من وجهة نظر سوسيولوجية، تعاني من خلل منهجي في تقنية سحب العينات في الأبحاث التي تقوم بها، مما قد يؤثر على عنصر التمثيلية.
فمن المؤكد أن الدراسة الوطنية لا تنعت كذلك إلا إذا اعتمدت على عينة تمثيلية حسب طبيعة الفئة الاجتماعية المستهدفة، في هذا الإطار نجد أن المندوبية قامت بإنجاز دراسة وطنية حول الشباب ، في حين أنها لم تستهدف إلا خمسة آلاف شاب، مع العلم أن عدد الشباب في المغرب يقترب من أربعة عشر مليون شاب، مع اختلاف فئات الشباب ( القروي، الحضري، المتمدرس، ذوي الاحتياجات الخاصة…)، لذلك فصغر حجم العينة المعتمدة يحيل على نوع ضعيف من العينات يسمى عينة بالقطعة chunk sample تستعمل عادة في الأبحاث التجريبية و لا تناسب بتاتا الأبحاث الوطنية.
كما أنه بالنسبة للبحث الوطني المرتقب حول الهجرة الدولية، في خضم عرض المديرية الجهوية للتخطيط بمراكش للعينة المستهدفة باستمارات البحثـ ، تم بشكل غريب إقحام الحديث عن دفتر التعداد والجداول العشوائية رغم أنها طريقة لسحب العينة تستعمل عادة بالنسبة للعينة العشوائية البسيطة simple random sample ، وهي عينة احتمالية تهم الدراسات التي تخص جميع أفراد المجتمع، لذلك لا يمكن أن تكون صالحة بالنسبة لموضوع المهاجرين إلا إذا تعلق الأمر ببحث يرتبط على الأرجح بتمثلات المجتمع حول الهجرة، والحال أن البحث يهم فئة المهاجرين وهي عينة عمدية purposive sampleيمكن أن نستعمل لسحبها طريقة كراث الثلج مثلا لأنه عادة نتعرف على المهاجرين من خلال مهاجرين آخرين أثناء البحث.
كما استوقفني عدد الباحثين الميدانيين المعتمدين، حيث تم حصره في سبع باحثين بالنسبة لجهة مراكش تانسيفت الحوز، وهذا يوحي بتقليص العينة وطنيا إلى أبعد حدود، بشكل لا يتناسب علميا مع مواصفات الدراسات الوطنية ولا مع رهانات المغرب في ملف الهجرة على المستوى الوطني والدولي.
في هذا الإطار، أعتقد أن وزارة الداخلية مؤهلة بشكل كبير لإعداد دراسة وطنية بل ودولية حول الهجرة، بالنظر إلى التقرير الميداني الوازن الذي قدمته ، خلال اللقاء الوطني المنظم من قبلها ، والذي تشرفت بحضوره ضمن باحثين مغاربة وفعاليات في مجال الهجرة.
تعتبر المندوبية السامية للتخطيط من المؤسسات الوطنية الاستراتيجية التي يمكن أن تقوم بدراسات وطنية ودولية، كما يمكن أن تشكل جبهة علمية وتقنية للرد على التقارير الدولية التي تسيئ إلى المغرب، من خلال التقريض المنهجي والتقني الذي يمكن أن يخلع عن هذه التقارير رداء الشرعية العلمية، كما هو الحال بالنسبة للمؤسسات الدولية التي تستعمل استبيانا إلكترونيا يسمح بالتعامل مع عينة غير تمثيلية هي عينة بالصدفة (أوكسفام مثلا).
* أستاذة علم الاجتماع والأنثربولوجيا بجامعة القاضي عياض