المريزق يكتب: تنزيل “ربط المسؤولية بالمحاسبة” على أرض الواقع..الآن قبل الغد
بقلم المريزق المصطفى
لا ننكر الثورة الهادئة التي عرفتها بلادنا في مجال حقوق الإنسان منذ ان إقتنعت الدولة المغربية بضرورة التفاعل مع توصيات وخطة عمل مؤتمر فيينا لحقوق الانسان المنعقد سنة 1993.
ولن ننسى أبدا قرار الدولة المغربية القاضي بتفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في انسجام مع احترام الالتزامات الدولية في مجال الحماية وحقوق الانسان.
كما لن تغيب عنا فرحة المغاربة بالوثيقة الدستورية الذي صودق عليها باستفتاء شعبي في يوليوز 2011 والتي في الفقرة الثانية من فصلها الأول، جاءت ” بربط المسؤولية بالمحاسبة”..لتخليق الحياة السياسية وتنوير تسيير الشأن العام.
هكذا حل بيننا هذا النص الدستوري ليؤكد على عدم إفلات أي مسؤول عن تدبير الشأن العام، سواء كان سياسيا أو وزيرا أو منتخبا في أي منصب كان، من المحاسبة والعقاب عند تورطه في نهب المال العام او تقصير أو اختلالات معينة.
جاء هذا في سياق دينامية إصلاحية بفضل الإرادة العليا للدولة ونضالات المغربيات والمغاربة وتجاوب القوى الديمقراطية مع المجتمع.
وبعيدا عن المزايدات والتأويلات، نفتخر بالانفراج السياسي والحقوقي الذي سمح للجميع ببناء توافقات مختلفة، مهدت لمبادرات تاريخية، بصمت مجال حقوق الانسان ببلادنا.
ويعتبر اليوم ” مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة” شرطا أساسيا لأركان الديمقراطية بالمغرب، ورابطا ثمينا يربط الماضي بالحاضر. رابطا يربط إطلاق سراح المعتقلين السياسيين (سنة 1989)، والإفراج عن ضحايا الاختفاء القسري (سنة 1991)، والعفو الملكي الشامل (سنة 1994)، بإحداث المجلس الاستشاري لحقوق الانسان (سنة 1990)، وإحداث أول وزارة لحقوق الإنسان بعد دسترة حقوق الانسان كماهي متعارف عليها عالميا ( سنة 1992).
وإذا كان هذا الفصل الدستوري الثوري لم يتم تطبيقه منذ 2011، باستثناء بعض الحالات التي تجلت في إقالة وإعفاء مسؤولين من طرف جلالة الملك، أو معاقبة بعض الوزراء وعدد من المسؤولين بعدم شغل أية مناصب مستقبلا، فإن ربطه الآن بالإصلاح السياسي والدستوري (سنة 1996) وبالنمعطف التاريخي الذي عشناه مع حكومة المناضل الاستاذ عبد الرحمان اليوسفي، يجعلنا نعترف من جهة بالمكتسبات، كما يجعلنا نتشبث أكثر من أي وقت مضى ببناء مغرب المستقبل، إنطلاقا من مفهوم جديد للسلطة، وطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان بصفة نهائية، وتفعيل حقوق المرأة والنهوض بحقوق الاسرة والطفولة، وتفعيل حقيقي لكل المؤسسات الدستورية، وتجديد الحكامة العمومية وجعلها في قلب المشروع التنموي الوطني.
لن ننسى كذلك تقرير الخمسينية الذي قدم لنا تقييما شاملا للسياسات العمومية منذ الاستقلال، وطرح خطط ووضع وسائل كفيلة بالتصدي للفقر والهشاشة والاستبعاد الاجتماعي، والذي لم يتم ربطه من طرف الفاعلين بمبدأ مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن الأوضاع المزرية التي يعيشعا بشكل خاص مغاربة المغرب القروي وسكان الجبل والواحات والسهوب، إلا عندما اندلعت أحداث الريف، فأمر الملك بفتح تحقيق صارم حيال المتسببين في تعثر وتأخر تنفيذ المشاريع الحيوية بالمنطقة.
ومع ارتفاع وتيرة مصادقة المغرب على الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الانسان ومراجعة التحفظات والقبول باختصاص بعض هيئات المعاهدات بتلقي البلاغات الفردية، والمصادقة على الاتفاقية الخاصة بحماية حقوق الأسخاص ذوي الإعاقة، والانضمام إلى بروتوكول منع ومحاربة الاتجار بالأشخاص، والحماية من الاختفاء القسري والتعذيب والتمييز، وكذلك تعزيز الإطار المعياري الدولي لحقوق الانسان، ووفاء المغرب بالتزاماته المتعلقة بتنفيذ التوصيات الصادرة عن آليات الأمم المتحدة لحقوق الانسان، وصولا الى المقاربة التشاركية الوطنية التي جاء بها دستور 2011 وافضت إلى دسترة توصيات هيئة الانصاف والمصالحة وترصيد الحقوق والحريات الأساسية؛ مع كل هذه المكاسب يحق لنا ان نطالب بقوة بالتطبيق اللامشروط لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة حتى نعطي لكل هذه الإصلاحات والأوراش معنى حقيقي لتطور ونماء مجال حقوق الانسان وبناء ديمقراطية مغرب المستقبل.
إن الحكامة جزء لا يتجزا من الديمقراطية المواطنة والتشاركية، وربطها بمبدأ المسؤولية والمحاسبة هو السبيل الوحيد لإعطاء معنى حقيقي للإطار المؤسساتي المعني بحماية حقوق الانسان والنهوض بها على مستوى الاختصاصات والصلاحيات والوظائف، وتعزيز مكانة المجلس الوطني لحقوق الانسان وكل المؤسسات الدستورية القائمة والقادمة.
وفي الأخير، إن بناء مغرب المستقبل، رهين بتنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، الآن قبل الغد.