القاضي حكيم وردي يكتب عن: فوضى الضياع
حكيم وردي
(*) باحث في القانون
تجنح الحرية في الأنظمة المجبولة على التداول الحر للمعلومة -لاسيما في البيئة الرقمية – إلى التنكر للأنساق القيمية التقليدية، وتنحو مكرهة بدافع إشباع غريزة الفضول المعرفي الفضائحي، باعتباره حطب نار المنافسة المستعرة لاستمالة جمهور متخم وكسول، إلى تكسير طابوهات المنع والتحريم سواء أكانت أخلاقية أو قانونية و حتى دينية. فالحرية الرقمية في المحصلة لا تعترف إلا بحريتها في النشر بدون ضوابط مرجعية.
لا يعني ذلك انهزام القاعدة القانونية في ضبط الفضاء السيبراني، ولكن فقط تزايد القناعة بعدم جدوى اللهاث بالزجر اقتفاء لآلاف المنشورات المخالفة للقانون الجنائي.
في هذا السياق الموسوم بالشطط في استعمال الحرية، يبدو عاديا أن تتعرض أخلاقيات الصحافة لتنكيل مقصود، أثره على المهني الحصيف هو أشد مضاضة من وقع الحسام المهند على حد تألم طرفة ذات معلقة.
هناك اغتيال يومي للحقيقة، وتزييف بسبق إصرار للوقائع، وتسطيح للوعي، وتشكيك مزمن في المؤسسات والسلط المكلفة بإنفاذ القانون، وتظليل للجمهور بتعمد إغراقه في الروايات المختلقة باحترافية، والتراشقات المرتهنة لاستقطابات حادة قسمت المشهد البئيس بين ملائكة وشياطين.
عادة في مهنة كالصحافة يكون التعويل على حكمائها وقيدوميها داخل تنظيماتها الذاتية لفرملة أي انزلاقات محتملة أو انزياحات مسيئة لأعرافها وتقاليدها، حيث تتدخل المؤسسات المهنية الشرعية للتأطير والتوجيه والتنبيه وعند التعذر واستفحال النزيف، يكون التأديب لازما للحفاظ على المصداقية من فوضى الضياع. في المغرب كما في العديد من الدول يعتقد الصحافي أن مهمته النبيلة في تنوير الرأي العام أسمى من أن تلزمه بتلقي دروس في الأخلاقيات التي لم يجف حبر مواعظها في الجريدة الرسمية حتى دهستها تطاحنات الأحداث المتسارعة.
لذلك لا بأس من التذكير بأن اختلاف المهنيين حول المجلس الوطني للصحافة لن ينفي عنه شرعية الجهة المنوط بها قانونا تحريك الدعوى التأديبية عن خرق ميثاق أخلاقيات المهنة والقوانين ذات الصلة بها، لإضفاء طابع الالزام على هذه الأخلاقيات ولتحقيق تراكمات بيداغوجية ضرورية في التفسير والتأويل.
إن سلوك مسطرة التأديب لا يضمر أي حمولة قدحية، بقدر ما سيشكل نوعا من طلب التحكيم لدى حكماء المهنة عند الاختلاف حول كيفية معالجة بعض الأخبار، كما من شأنه أن يخفف من حجم الدعاوى المرفوعة في مواجهة الصحافي أمام القضاء، خصوصا وأنه بات راسخا في توجيهات السياسة الجنائية الرامية إلى دعم ممارسة الحقوق والحريات الدستورية ومنها حرية الصحافة والنشر أن النيابة العامة لا تحرك المتابعات تلقائيا في حق الصحافيين إلا في حالات قليلة تقتضيها الإجراءات القانونية (كالشكايات المقدمة من طرف أعضاء الحكومة التي تمر وجوبا عبر قناة النيابة العامة ) فمن أصل 142 شكاية مباشرة متعلقة بجرائم الصحافة مسجلة سنة 2018 لم تتجاوز المتابعات التي حركتها النيابة العامة تلقائيا 05 متابعات ( التقرير السنوي الثاني لرئاسة النيابة العامة عن سنة 2018 ص 111)، لذلك تكتفي النيابة العامة وغيرها من المؤسسات عند استفحال الأخبار الزائفة إلى نشر بلاغات توضيحية مصحوبة بعبارات الأسف دون أن تتعداها إلى تحريك الدعوى العمومية رغم تزايد المطالب من طرف العديد من المهنيين الداعية إلى تدخل النيابة العامة لإعمال القوانين الزجرية.
إن تعلم السير في ممشى الحرية الطويل والشائك لا يخلو من عثرات البداية التي تحتاج إلى مواكبة بالدعم والتوجيه والتأديب الأقرب إلى التهذيب، أما الزجر والعقاب الجنحيين فلا يتصور اللجوء إليهما إلا عند المساس الخطير بالنظام العام حيث آخر الدواء الكي.
(*) باحث في القانون