خمس سنوات على رحيل محمد بسطاوي: ما عمل عملا إلا وأتقنه!
كتبها: جمال بدومة
خمس سنوات على رحيل محمد بسطاوي:
ما عمل عملا إلا وأتقنه!
كنت طالبا في “المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي”، بداية التسعينيات، حين تعرفت أول مرة على المرحوم محمد بسطاوي، شاهدته على الخشبة مع فرقة “مسرح اليوم” وفي مقهى “المثلث الأحمر”، الذي كان محجًا للفنانين والكتاب والصحافيين والمخبرين في تلك السنوات البعيدة.
خلال تلك المرحلة السياسية الدقيقة من تاريخ البلاد، استطاع بسطاوي وخيي والخمولي، إلى جانب ثريا جبران وعبد الواحد عوزري، أن يعيدوا الحياة إلى الخشبة، عبر أعمال أصبحت اليوم من كلاسيكيات المسرح المغربي: “حكايات بلا حدود”، التي استلهمت نصوص الشاعر والمسرحي محمد الماغوط، و”بوغابة” التي اقتبسها محمد قاوتي عن رائعة “بانتيلا وتابعه ماتي” لبيرتولد بريشت ، و”نركبو لهبال” و”النمرود فهوليود”…
وفي عام 1995، سيدخل بسطاوي تجربة جديدة مع “مسرح الشمس”، الفرقة التي أطلقها مع محمد خيي ويوسف فاضل وعبد العاطي لمباركي وعبد المجيد الهواس وعبد الله الريامي، الشاعر العماني الذي كان يقيم في الرباط مع قصائده الجميلة. كانت مغامرة مسرحية مدهشة، تفاعل فيها الممثل والكاتب والمخرج والسينوغراف والشاعر، ورغم أنها لم تعمر طويلا، فقد تركت أعمالا محفورة في ذاكرة جيل مسرحي بكامله مثل “خبز وحجر” و”فانتازيا” و”بوحفنة” و”الخمارة”، التي مثلت تكريما أنيقًا لشاعر “الفروسية” أحمد المجاطي عندما ترجّل عن صهوة الحياة في اكتوبر 1995.
كان بسطاوي يجلس كل يوم في “المثلث الأحمر”، رفقة صديق عمره محمد خيي، وكم كان مثيرا ذلك الصمت الذين يرين على جلستهما، لا يتحدثان البتة، يعطيان الانطباع أن الكلام بينهما انتهى، قالا كل شيء ودخلا في تواصل روحي عميق. عندما دخل بسطاوي عالم السينما والتلفزيون، في العقد الأخير، ربحته الشاشة والجمهور العريض، وخسره المسرح وعشاق الخشبة.
دوره في شريط “ألف شهر” لفوزي بنسعيدي، سيظل من أجمل الشخصيات التي جُسّدت في تاريخ السينما المغربية، من خلال ذلك التواطؤ الرفيع مع الفنان عبد العاطي لمباركي، الذي تألق في دور “القايد”…
بسطاوي كان ممثلا كبيرا، يخلص لعمله الفني دون جلبة أو ادعاء، مثل المرحومين محمد مجد ومحمد الحبشي، اللذين رحلا قبله تاركين فراغا لا يعوض في المشهد الفني المغربي، لأن ثمة أدوارا لا يمكن أن يلعبها غيرهم.
رحل بسطاوي، قبل أوان الرحيل، بعد أن حفر طريقه وسط المنعرجات الوعرة، ووصل إلى مرحلة النضج، بحيث بات يستطيع وضع بصماته المتميزة على أكثر الشخصيات تعقيدا، لكن عزرائيل لم يمهله وأخذه إلى “ذلك القطر المجهول الذي من بعده لا يعود أحد”، كما وصفه هاملت في مأساة قديمة. مع رفيق دربه الفني محمد خيي، شكل بسطاوي الاستثناء وسط قاعدة عريضة من الممثلين الذين استسهلوا اللعب مع الكاميرا، وباتوا يقفون وراءها وأمامها في الآن ذاته، بكثير من النزق، يخلطون بين إخراج الأفلام و”إخراج العينين”، ويصرّون على “إتحافنا” ب”أفلام” تسبب للمشاهدين ارتفاعا في الضغط والسكري، في إطار استغلال بشع ل “المال السايب”، الذي يوزعه المركز السينمائي المغربي بسخاء على مشاريع فاشلة، لدرجة جعلته متخصصا في إنتاج “اللفت” (Les navets )، وبات يجدر معها إلحاقه بوزارة الفلاحة!
الراحل كان يملك من الموهبة والجدارة ما يؤهله، أكثر من غيره، لتوسيع نشاطه الفني خارج دائرة التمثيل، لكنه بقى وفيا لمهنته. كان بإمكانه، هو أيضا، أن يخرج ثلاثة أفلام قصيرة ويحصل على دعم المركز السينمائي، وينضم إلى “جمعية منتجي اللفت”، لكنه كان يحترم شغله ويعرف أن مهنة التشخيص صعبة وتحتاج إلى تفرغ كامل، وأن الممثل حين يحتال على الدور يظهر غشه على الشاشة. الغش في العمل والادعاء والتطاول على اختصاصات الغير واستسهال كل شيء، هو ما يجرّ المغرب باستمرار إلى الوراء، إنها “سوسة” “الهواية” التي تنخر كل مناحي الحياة، مقابل “الاحتراف” الذي يعني الإخلاص والتمكن والتفاني في العمل.
التمثيل مهنة لا مكان فيها للكذب والادعاء، وبسطاوي دخل قلوب الناس لأنه كان مخلصا لمهنته، و”رحم الله امرءً عمل عملا فأتقنه”، رحم الله محمد بسطاوي.