النظافة التي نريد !
اسماعيل الحلوتي
يحدث في عدة مناسبات أن تعرف مدننا حملات نظافة واسعة، بمبادرات فردية أو جماعية بتأطير من جمعيات مستقلة، لا تربطها أدنى صلة بالأحزاب السياسية أو المنظمات النقابية. وغالبا ما يكون قادة هذه الأعمال التطوعية الجليلة فئة من الشباب، يفيضون حماسا وحيوية، تحكمهم فقط ضمائرهم الحية وروح المواطنة وقيم التعاون والانضباط.
لاسيما في المدن الكبرى التي تعاني من مشاكل كثيرة في تدبير النفايات. وهو ما يمكن اعتباره إشارات قوية وواضحة على أن المغاربة شعب عريق وأبي، يرفض العيش وسط الأوساخ والقاذورات ويتوق إلى حياة أفضل في بيئة سليمة ونظيفة.
وهي مبادرات محمودة لا يمكن إلا تثمينها والتصفيق بحرارة للساهرين على تنظيمها، الذين يحعلون منها نمط عيش دائم، باعتبار النظافة ممارسة تربوية ذات أهداف سامية وقيم أخلاقية راقية. وهي أساس تطور المجتمع وتقدمه وازدهار حضارته، فضلا عن أنها حاجز متين ضد التلوث البيئي وانبعاث الروائح الكريهة وانتشار الأمراض والأوبئة. لكن ما جدوى نظافة شوارعنا ومدننا، إذا كانت إداراتنا العمومية ومؤسساتنا ومجالسنا الجماعية والجهوية وغيرها تدار بعقول متعفنة؟
نحن لا نريد فقط النظافة بمعناها الحسي المادي، ولا نريد أن يستمر المسؤولون ومدبرو الشأن العام ببلادنا في الضحك على ذقوننا، عبر شعارات براقة تدعو إلى محاربة الفساد وتخليق الحياة العامة. ولا نريد مسكنات “اصطناعية” وإطلاق الشائعات لامتصاص الغضب الشعبي والحد من الاحتجاجات. ولا نريد تقارير صورية عن التجاوزات الإدارية والمالية، دون تطهير مجتمعنا من الفاسدين ومتابعتهم قضائيا، وفق المبدأ الدستوري “ربط المسؤولية بالمحاسبة”.
ولا نسعى أبدا إلى محاولة جعل بلادنا “مدينة فاضلة”. ولكننا نريد نظافة مادية ومعنوية، بتطهير مجتمعنا من مختلف أنواع “الأوساخ” والظواهر الخطيرة كالإجرام والمخدرات والحبوب المهلوسة والعصابات الإرهابية، ونريده خاليا من أساليب المكر والغدر، وممارسة النفاق ودغدغة المشاعر والتلاعب بالعقول والادعاءات الزائفة. نريد نظافة اليد التي لا يدنسها التطاول على المال العام وأملاك الغير والابتزاز والرشوة… ونريد نظافة الأفواه من أقوال الزور والخطاب السياسي البئيس والافتراء وامتصاص دماء العمال والأجراء وأكل أموال الشعب بالباطل، ونريد نظافة القلب من الحقد والحسد والكراهية.
فالشعب برمته أصيب بالإحباط واليأس وفقد الثقة في المؤسسات والمنظمات والنخب السياسية، وصار سلاحه الوحيد في الاحتجاج والتنديد بالظلم والقهر والتهميش والإقصاء والمطالبة بحقوقه المشروعة، هي مواقع التواصل الاجتماعي التي من خلالها يقاوم الغلاء الفاحش ويفضح المفسدين… وكما يحرص على إطلاق حملات نظافة حقيقية وليست شكلية أو دعائية، التي كثيرا ما تؤتي أكلها في تنظيف الشوارع والحدائق والشواطئ، يتطلع إلى أن تتحمل الدولة بدورها المسؤولية في القيام بحملة نظافة مغايرة في ميادين أخرى، تهم تنقية البلاد من مظاهر الفساد والاستعباد.
من هنا نريد أن تنفض الدوائر المعنية الغبار عن التقارير المركونة في الرفوف، الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات وغيره من المؤسسات، المتعلقة برؤساء الجماعات ونوابهم وسواهم من المتورطين في انتهاك قوانين تسيير ميزانيات المجالس وإعداد تقارير مغلوطة للسلطات، وإتيان خروقات مالية وإدارية خطيرة من قبيل اختلاس المال العام وتبديده، وعقد صفقات عمومية مشبوهة لمحاباة شركات كبرى ومنعشين عقاريين بملايين الدراهم، في خرق سافر للقانون المنظم للصفقات العمومية، بعيدا عن مبدأ الشفافية والحكامة الرشيدة في التسيير.
فالمغاربة ضاقوا ذرعا بهذا التسيب القائم واستشراء الفساد في جميع القطاعات العامة والخاصة، ولم تعد تهمهم في ظل عدم استقلالية القضاء إحالة ملفات على محاكم جرائم الأموال ولا تلك المحاكمات الانتقائية، خاصة منذ تولي حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية مسؤولية قيادة الحكومة، الذي جاء أمينه العام السابق ورئيس الحكومة السابق عبد الإله ابن كيران ممتطيا صهوة محاربة الفساد والاستبداد وتخليق الحياة العامة، ثم لم يلبث أن استبدل ذلك الشعار ب”عفا الله عما سلف”. وها هو خلفه سعد الدين العثماني يسير على خطاه، متوسلا إلى مهربي الأموال من رجال الأعمال إلى الخارج بإعادته وفق أفضل الشروط المناسبة لهم.
والشباب المغربي بصفة خاصة، يريد من خلال موجة الاحتجاجات المتصاعدة وأغانيه الشعبية المتزايدة، نظافة حقيقية وذات معان سامية، تستهدف جميع المستهترين بالمسؤولية وغير المبالين بقضايا وهموم الشعب، أولئك الذين يتلاعبون بالملايين من أمواله في إفساد الانتخابات وشراء الذمم وإقامة الأعراس الباذخة لأبنائهم.
ويصر على تطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب ومحاسبة الضالعين في شبهات فساد مالي أو إداري وكل المتواطئين، دون استثناء أو تمييز بين الأشخاص مهما كانت مواقعهم ومسؤولياتهم، من موظفين كبار ووزراء ومسؤولين حكوميين سابقين وحاليين وبرلمانيين ورؤساء مؤسسات عمومية وجماعات ترابية، وغيرهم من الذين اغتنوا بشكل فاحش عبر استنزاف خيرات البلاد، ويساهمون في تعطيل مسار التنمية.
إننا ندرك حجم القرف الذي بات يستبد بشعور المواطنين حيال الطبقة السياسية التي أجهضت أحلامهم وحطمت آمالهم، لكن هذا لا يعطيهم الحق في إدارة ظهورهم للعمل السياسي والعزوف عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية. فتطهير البلاد الحقيقي من هذه الديناصورات والفاسدين والأميين، الذين لا يكفون عن التهام ميزانيات البلاد والعبث بمصالح العباد، يبدأ من التوجه إلى صناديق الاقتراع، لإضعاف نفوذهم والحد من غطرستهم، التخلص من عبئهم وجرائمهم المالية والاقتصادية والأخلاقية، ومن ثم التأسيس لبيئة سياسية سليمة ومجتمع تسوده قيم الحق والعدل والاستقامة والامتثال للقانون…
اسماعيل الحلوتي