وباء الكورونا أزمة أخلاقية وليست بيولوجية
حسن خليل غريب
لقد شهد تاريخ البشر منذ أقدم العصور سلسلة من الكوارث الصحية التي عمَّت كل سكان الكرة الأرضية، ودفعوا من جرائها ملايين الضحايا. فوباء الكورونا المنتشر الآن في جميع دول العالم، المتقدمة منها والمتخلفة، زرع الهلع في نفوس الجميع من دون تمييز عرقي أوطائفي أو طبقي. فكما خاف منه الهندوسي، خاف منه أيضاً كل من اعتنق ديناً سماوياً. وكما خاف الفقير والمعدم، خاف منه الغني والأكثر غنى. وخاف منه العالِم والجاهل. ولم تسلم من الهلع الدول الكبرى المتقدمة صناعياً. ولكن الفوارق في مواجهة هذا الهلع هو أن الدول الفقيرة كان هلعها زائداً لأنها عاجزة عن توفير وسائل الوقاية من الوباء أو العلاج منه. بينما الدول الأكثر امتلاكاً للموارد المادية كانت تغري مواطنيها بتعويضهم عما يتسبَّب به الوباء من خسائر نتيجة الحجر الإلزامي أو الطوعي.
لقد وحَّد الخوف من الكورونا كل المجتمعات. ولكنه لم يُوحِّد الرؤية في مواجتهه، وتشخيص أسبابه وطرق علاجه. بل وصل الأمر إلى حدود وصفه بأنه شكل من أشكال الحروب بين الدول الكبرى، ولهذا راح كل واحد منها يكيل اتهامات في وجه البعض الآخر.
-واجهته الأنظمة الرأسمالية بالتسابق على اكتشاف العلاج للاستفادة من عائداته المالية الهائلة. ولهذا تسرّ ع أبحاثها لاكتشاف الدواء المناسب لتصنيعه، من أجل تسويقه قبل غيرها.
-وواجهته أنظمة أخرى، تقف في مسافة وسط بين الرأسمالية والاشتراكية، وكان مرشدها مبدأ العدالة الاجتماعية في المقام الأول، ووضعت عامل الاستفادة من عائدات إنتاج الأدوية في المقام الثاني. ومن أجل ذلك كان همها القضاء على الوباء من دون تمييز عرقي أو طبقي، بغض النظر عن غني يستطيع دفع ثمنه، أو فقير يعجز عن الدفع.
-وأنظمة ليس لديها وفر مادي، ولكنها تطوَّعت لمدِّ يد العون لدول أخرى بالخبرة الفنية، وتطويع آلاف الاختصاصيين بمكافحة الوباء من دون أجر أو مقابل ثمن.
-وأما المجتمعات الدينية، فكانت وسائلها بالمكافحة مختلفة تماماً، وقد واجهت الهلع والخوف من الوباء. فمنها من راح يسرف بأداء الصلوات والدعاء. ومنها من لجأت إلى التعاويذ والخرافات والرقى. ومنها من دعا إلى زيارة المقامات والأضرحة التي تحسب أنها مقدَّسة. وما إلى هنالك من وسائل متخلِّفة. ولكن في جميع الحالات لم تُقدِم أية مؤسسة دينية إلى الصرف من أملاكها لتقديم معونة للفقراء إلاَّ فيما ندر، وبالحجم الذي يغطي حاجات جزئية للفرد، ولأحجام لا تستفيد منها جماعات كاملة. وفوق كل ذلك، وإذا كانت بعض المؤسسات الدينية قدمت شيئاً، فإنما شملت تقديماتها فقط أبناء حظيرتها الدينية أو المذهبية.
هذا هو واقع المشهد الذي لفَّ العالم من أدناه إلى أقصاه. وهذا الواقع لم يرتق إلى مستوى عالمية الظاهرة. بل راحت كل مجموعة من الدول أو المؤسسات الدينية تنظر إليها من زاويتها الخاصة والتي لا تنفصل عن منهجها في النظر إلى الحياة البشرية، وقيمة الإنسان فيها.
لقد تساوت مناهج الرأسمالية بالنظر إلى وباء كورونا مع الأكثرية من المؤسسات الدينية من زاوية المنفعة الخاصة.
-فالأولى نظرت إليه من زاوية عائدات أدوية مكافحته، لتصبَّ في خزائن طبقة الواحد في المئة التي تحكم العالم وتمتلك 99% من الثروات، من جيوب الـ99% التي تمتلك واحداً بالمئة من تلك الثروات.
-والثانية من زاوية ربطه بقوة إلهية، تزعم أن الله نشر الوباء ليمتحن بنشره إيمان البشر. وتحثَّهم على الصلوات والأدعية لتجني من عائداتها أرباحاً لا يُستهان بها. وحثِّهم على زيارة ما تعتبره مقامات مقدَّسة لتقديم النذور أمامها، ومنها تجني تلك المؤسسات أرباحاً رأسمالها صفر من الجهد.
وإذا كنا نريد أن نكيل تلك المنافع بمنظار إنساني، لوجدنا أن الجانب الأخلاقي هو الأكثر بعداً عن أهدافها. وأما السبب، فلأن وباءً لم يميِّز بانتشاره بين عرق أو دين، بين غني أو فقير، يؤكد أن البشر من طينة بيولوجية واحدة، وليس هناك وباء يصيب إنساناً ويُبعده عن آخر. وعلاجه لمُصاب يصلح علاجاً لآخر. فلا تمييز بين غني أو فقير، بين مؤمن وبين كافر. ولهذا يُصبح تقديم العلاج لجميع البشر، من دون أي تمييز، قيمة أخلاقية.
وعلى الرغم من كل ذلك، ظلَّت الأنظمة الرأسمالية تتصرَّف على قواعد منهجها المبتور والمحدود، وتتعاطى مع البشر من زوايا مصالح محدودة، وذلك بالعمل على تجزئة ما أراده الله قانوناً واحداً يتم تطبيقه على كل البشر. وحتى المؤسسات الدينية نظرت إلى ظاهرة الوباء نظرة محدودة تتلاءم مع منهجها في التمييز الديني ضاربة القوانين الإلهية عرض الحائط، واعتبرت أن الدواء الشافي يتم تحصيله عبر معتقداتها الخاصة. ولعلَّ من أهمها أنها وجدت العلاج في الوسائل الغيبية بالتوسل إلى مقاماتها وقديسيها من دون غيرهم، وأطاحت بأهمية العلم وسموِّه.
في هذا الظرف الدقيق، يشهد وباء كورونا انتشاراً عالمياً، شاملاً كل شعوب الكرة الأرضية. وعلى الرغم من وحدة تحليل المرض جرثومياً بأنه يصيب كل البشر. وعلى الرغم من أن اكتشاف علاج مضاد له يصلح دواء شافياً للجميع. تجد كلٌّ يعزف لوباء كورونا على قيثارته.
-فالرأسمالي يعزف على قيثارة الربح حتى ولو كان فوق مقابر الأموات، أفراداً أكانوا أم دول. ولا ضير في أن تضم تلك المقابر الآلاف من مواطنيها.
-والغني يغني على قيثارة المحافظة على أمواله، وأمن خزائنه، على الرغم من أنه قد يكون من زوار المقابر بسبب إصابته بالعدوى. خاصة أنه سيحتاج مساحة من الأرض تتساوى مع المساحة التي يحتاجها الفقير.
-ورجال دين، ينشرون الحروب بين الأديان والمذاهب، يدعون إلى درء الوباء بتعاويذ ورقى يتوسلون فيها من يقدِّسونهم لحماية أتباعهم في الدين والمذهب. وإنهم إذ يدعون الفقراء من بينهم على الصبر على فقرهم، فإنهم يكدسون أموالاً طائلة، بينما هم يعرفون أنهم لن يستطيعوا استثمارها في بناء قصور في الجنة، أو شراء أي من حورياتها. لا بل إنهم حتى في زمن الكورونا يقنصون حتى من الفقراء أجراً لصلوات يزعمون أنها تساعدهم على راحة أنفسهم بعد الموت، نفوس لم تأنس برؤية رغيف من الخبز قبله، ذلك الرغيف الذي تشارك بنهبه من يحسن فنون تحصيل المال بغض النظر عن الوسيلة، ومن يزعم أنه يُتقن فنون المعرفة بالغيب.
مرة أخرى، وفي زمن الكورونا، كما كان في غيره كزمن الإيبولا، وزمن الملاريا، وزمن الطاعون، تغيَّرت أنواع الأوبئة، ولا تزال البشرية جامدة عند قوانين صنعها الجشع الرأسالي، وجشع بعض رجال الدين. ولم تقم أية جهة أخرى، باستثناء ما أنتجته عقول المفكرين والعلماء من دعوات للبشر بأن يغيِّروا القوانين التي صنعها الأقوياء لمصالحهم الخاصة، ولم يتَّعظوا مما كانت تمر به البشرية من آلام وكوارث لتغيير منهجهم في الربح المتعطش دائماً للتضحية بالمبادئ الإنسانية. ويقومون بنحرها على مذبح تجميع الثروات التي لا يحتاجون منها سوى الجزء اليسير ولأمد زمني محدود.
تلك الثروات لا يستفيدون منها بأكثر من ملء معدة، تتساوى أحجامها ووظائفها عند جميع البشر. أو كساء للجسد يفوق حجمه بين إنسان وآخر بعدة من السنتيمترات. هذا على الرغم من أن الأغنياء يتمايزون عن الفقراء بتوفير الكماليات التي تساعد على تجميل جوانب الحياة، ولكنها أقل من أن تكون حبل النجاة من الموت، ففي الموت مساواة بحجم القبر بمعنى المساحة التي يحتلها، ومساواة في الأيدي الفارغة من أي نقود أو نفوذ أو سلطة.
وأما عن السبب الذي يغري من يكتنزون الأموال الطائلة فليس بجديد منذ أن وُجد الإنسان على الأرض، ويتلخَّص بالطمع بتجمبع المال للحصول على السلطة. ولهذا عاشت الإنسانية آلاف السنين على وقع الصراع بينهما. ولم يكن المال يمثِّل أكثر من أداة من أدوات السلطة. وهكذا استمرت هذه اللعبة التي لا تزال البشرية تعاني منها حتى يومنا هذا.
لم نجد جواباً حتى الآن عن السبب أكثر من أن تكديس الأموال مصدر قوة لمالكه على المستوى العام. ومصدر قوة للدول التي جبلت أموالها بدماء فقرائها وعرق جبينهم، وجمعتها على حساب الدول الفقيرة لإبقائها رهينة سياسية ترتمي بأحضانها بالتخلي عن حقها في العيش الكريم وحقها بثرواتها. وإذا كانت التكنولوجيا نعمة للبشرية تستفيد منها في تحسين أحوالها المعاشية والمعيشية، فقد جعلتها النفوس الرأسمالية نقمة على البشرية لأنها احتكرتها واستخدمتها من أجل تجميع الرساميل الضخمة لاستغلالها في كسب المزيد من النفوذ على شعوب العالم.
ليس الحل سهلاً، ولكنه ليس بالمستحيل. وكما عرفت البشرية نماذج من الأنظمة الرأسمالية الجشعة، فقد عرفت أيضاً أنظمة أخرى بدأت في صياغة مفاهيم بديلة للأنظمة الرأسمالية، وذلك بتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية التي وإن لم تصبح الأنموذج الأمثل، فإنها شقَّت مساراً جديداً يمكن دعمه والترويج له. وكما عرفت البشرية صنفاً من المفكرين الذين وضعوا أنفسهم في خدمة المنهج الرأسمالي، فقد عرفت أيضاً مفكرين يؤمنون بالقيم العليا، الذين وإن مات أكثرهم غيظاً، فعلى من ورثوا خصالهم ومبادئهم أن يتابعوا المسيرة. والعمل على تعميق المسارات التالية:
-الحرص ليس في العمل على تغيير مناهج الجشع عند من يمارسونها صباحاً ومساء وفي كل لحظة، بل على الحفر في جدران العقول البشرية الجاهلَة خاصة من الذين يستمتعون بوضع القيود على رقابهم، وكمامات الصمت على أفواههم. والإصرار على عتقهم من القيود، والصراخ في وجه الذين يستثمرون استسلامهم، والصراخ في آذان كل الساكتين عن الفاسدين إلى أية مؤسسة لها علاقة بنجاة الإنسان في حياته.
وأخيراً،
وبالمقارنة بين أنموذجين عالميين: أنموذج النفعيين باستغلال الوباء من أجل منافع خاصة. وأنموذج العاملين على قاعدة التعاون الإنساني لمكافحته أينما حلَّ أو ارتحل، نجد أن انتشار وباء كورونا لا يخيف كأزمة بيولوجية، بل يخيف أكثر لأنه أزمة أخلاقية. فيا شعوب العالم اتحدوا لإعادة الاعتبار لمبادئ الأخلاق في العلاقات البشرية.