تأملات فلسفية: التاريخ وجدلية الصراع وسؤال الحقيقة
نوفل بلمير
هناك من يرى أن ثنائية الفكر والواقع، مترابطة غير قابلة للانفصال أو العزل عند محاولة فهم التاريخ وإعادة كتابته، وأن كل محاولة لتفكيك هذه الثنائية بغرض التحليل والتركيب، تستدرج لا محالة العملية الجدلية أي جدلية الصراع؛ صراع الفكر ونقيضه، صراع المتناقضات الرئيسية، صراع البنى الفوقية والتحتية، صراع الطبقات، صراع الرأسمال وقوى الإنتاج، صراع الماضي والمستقبل، صراع التقليد والحداثة… وأن هذه الجدلية المتلازمة للحركة التاريخية، تشكل سببا ونتيجة لسيرورتها.
هذه القراءة للتاريخ، لا تعدو أن تكون إلا مقاربة نظرية لفهم الوجود الإنساني، إيديولوجية تعتبر أن الوجود نتيجة لحتمية تاريخية، ذات منطق خطي منقطع في فترات زمنية لكنه مستمر، وهذا التصور للعالم يتوفر على أدوات منطقية وعلمية تجعل من الوجود الإنساني وجوداً حراً ذو غاية صراعية أي وجوداً ملتزماً. وهنا يمكن استحضار تصورات في الفلسفة المثالية لهيغل والفلسفة المادية لماركس وعند بعض الوجوديين من مدرسة جون بول سارتر.
فهل يمكن أن يفهم التاريخ خارج جدلية الصراع؛ التصادم، الهيمنة وحتمية الحقيقة الواحدة…؟
هناك من يعتبر، أن ثنائية المعرفة والحقيقة قادرة على استيعاب التاريخ خارج العملية الجدلية، باعتبار أن المعرفة بالتاريخ ليست مسلسلاً لأحداث سببية مجردة، ، بل هي معرفة تتجاوز ذلك، وهذا ما نجده في فلسفة ايمانويل كانط، متجاوزا بذلك الفلسفة العقلانية غير القادرة على استيعاب الطبيعة وفلسفة التجريبية غير القادرة على اختبار الكون، وقد ينضم إليه الفيلسوف سورين كيركيغارد حينما اعتبر المعرفة مرتبطة بالأفراد و لا يمكن جعلها مصدر حقيقة واحدة بل حقائق متعددة تتفرق من حيث مستويات الأستيتيكية و الأخلاق و المعتقدات. من هذه الزاوية يبدو التاريخ عبارة عن فترات منفصلة غير مرتبطة ببعضها، مشتركها الوحيد هو الانسان الفرد الحر في مجاله وزمانه. هنا وجودية من مدرسة أخرى قد يكون ألبير كامو الأقرب إليها.
إن كل الدعوات القائمة اليوم، لوضع تصور عالم جديد، في شكل قالب نمطي جاهز قابل للعرض والاستهلاك السريع، غير مجدية ودون جدوى، ليس لضعف كفاءة أنصار هذه المقاربة فقط، بل لغياب الإطلاق المعرفي والعلمي في مثل هذه المواضيع. وهنا ضرورة العودة للفلسفة، فقد تكون التحولات التاريخية، تأخذ طابع التدرج والاستئذان، لكنها قد تكون فوجائية وسريعة مرتبطة بظرفية خاصة واستثنائية خارجة عن المعهود والمتداول. إن محاولة كتابة تاريخ جديد هو إعادة الاعتبار للفلسفة، لأن تاريخ الفلسفة لم ينتهي، وأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الانسان في حد ذاته.