رشيد قنجاع يكتب: التمييز العنصري: الكابوس الامريكي
التمييز العنصري: الكابوس الامريكي
رشيد قنجاع
فجر مقتل المواطن الأمريكي من أصول افريقية جورج فلويد من طرف احد عناصر الشرطة يوم 25 ماي 2020، من جديد موضوع التمييز العنصري، بشكل زلزل كيان الدولة الأولى و العظمى في العالم، في قوميتها و تركيبتها البشرية.
بهذا القتل بدم بارد، و تحت مطلب فلويد بحقه في التنفس و أمام توثيق العديد من الهواتف النقالة ، وجد الأمريكيون أنفسهم مجددا أمام هشاشة النموذج القومي الأمريكي الذي نافحت عنه النخبة السياسية الامريكية عقودا من الزمن ، بجمهورييها كما ديمقراطييها ، على تسويقه كونيا بكل الوسائل المادية المتاحة مسخرة ماكينة التنظير الفكري و السياسي و السينمائي و الاشهاري، كنموذج مثالي لمجتمع قومي و موحد متشبع بقيم الوطنية الأمريكية الضامنة للعدالة و المساواة و المكرسة للمجتمع الأخلاقي المسيحاني التوراثي، تجعل من هذا النموذج امل و خلاص و قدوة للانسانية ضد القهر و الظلم و التمييز. هذا الميل عبر عنه صامويل هنتنغتون في كتابه السياسة الأمريكية ” من الممكن التحدث عن مجموعة من الأفكار السياسية التي تشكل الأمركة بمعنى لا يمكن التحدث به عن النزعة البريطانية او الفرنسية او الألمانية او اليابانية.
فالأمركة بهذا المعنى يمكن مقارنتها بالأيديولوجيات والأديان الأخرى…
هذا التماهي القومي مع العقيدة او القيم السياسية يجعل الولايات المتحدة فريدة من نوعها”.
لقد قدم الجمهوريون كما الديمقراطيون أمريكا ليس بلد حلم او رؤية فقط، بل بلدا له مهمة قومية تاريخية انسانية، و التقديم لأمريكا بهذا الشكل، يشكل جوهر ايمان الأمة ” بامتيازها و فرادتها” كما جاء في كتاب اناتول ليفن ” أمريكا بين الحق و الباطل”.
مثلت الهجمات الإرهابية ل 11 سبتمبر و ما تلاها من قرارات حاسمة في العالم،فرصة مواتية لتكثيف الخطاب القومي الأمريكي الغارق في الشوفينية و بخلفية دينية بروتستانتية ثوراثية، مستهدفة تجييش الشعور لدى الأمريكيين على انهم امم كونية تختزل أفضل ما في الانسانية، و تحوي في الآن نفسه الإنسانية جمعاء من خلال قيمها الكونية التطبيق.
و هذا التجييش القومي لتبني الخطاب المتعالي صاحب الرسالة، سبق أن عمر في التاريخ عند القوميات المعتزة بذاتها و المفتخرة بإنجازاتها سواء في الخطاب الإمبراطوري الروماني او الالماني و الفرنسي و عبر عنها المفكر ريسل نيي عندما أقر أن ” جميع الامم اتفقت منذ أمد بعيد على أنها هي شعب مختار، فكرة القدر الخاص قديمة قدم القومية نفسها. مع ذلك ليس ثمة امة في التاريخ الحديث تهيمن عليها فكرة أن لها مهمة خاصة في هذا العالم مثل الولايات المتحدة”، و هذا النزوع لم يسلم منه حتى مؤمني و دعاة خطاب الاتحاد الأوروبي ، الذي يعتبرون أنفسهم مكلفين بمهمة نشر الديمقراطية و حقوق الإنسان و التطور كمهمة تمدينية لباقي الشعوب و الامم.
لقد بنيت القومية الأمريكية على فكرة الاندماج و ليس التنوع، مثلها مثل القومية الفرنسية. فبفضل مساحتها الجغرافية الضخمة و الإمكانيات المهولة التي تتيحها ديناميكيتها الاقتصادية ، نهجت الدولة الأمريكية سياسة دمج عنصرها إلاجتماعي الأفريقي و كذا أعداد كبيرة من المهاجرين للانضمام لعقيدتها و ثقافتها و هي ما عبر عنه القاضي اوليفر ويندل هولمز في كتابه ” القومية الامريكية” بمقولته ” نحن روما العالم المعاصر و الشعب العظيم في قدرته على الاستيعاب” .
بهذا النهج أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها حضارة العالم الجديد، متكئة على نجاحها الاقتصادي و العسكري و القدرات الواسعة التأثير لقوتها الناعمة. و بهذه المرتكزات تواجدت الولايات المتحدة الأمريكية و امتدت في التأثير في ثقافات شعوب العالم عبر مداخل اللغة و الأطعمة و الماركات الأمريكية و انتاجات هوليود الضخمة و تميزها في الصناعة الرياضية و في نمطها الاقتصادي، و يمكننا استحضار تأثير كل هذا في صراعها مع الاتحاد السوفياتي ، على شعوب أوروبا الشرقية في التحاقهم بالنمط الغربي الرأسمالي الذي شكل علانية انهيار بنيان المنظومة السوفياتية.
رغم ما حققته الولايات المتحدة الأمريكية من انجازات دولية منذ الحرب العالمية الأولى و الثانية و تغلبها في الحرب الباردة و ما تلاها من سيطرة على العالم إلا أنها فشلت في استغلال اللحظة لخلق استقرار دولي و تثبيت النمو التصاعدي للنظام الرأسمالي كما فشلت في القضاء على الفقر و الأمراض إلاجتماعية داخليا و على رأسها التمييز العنصري كما سنبين لاحقا، بل ساهمت في خلق أعداء جدد لها على المستوى الدولي.
ظل التمييز العنصري عائقا أمام الولايات المتحدة الأمريكية لإقناع شعوب العالم برسالتها، لعدم قدرتها على الحسم النهائي معه و القطع مع كل عهود الاستعباد، رغم كل محاولات نخبها المتحكمة في دواليب الدولة الأمريكية منذالخمسينات و الستينات من القرن الماضي للالتفاف عليه عبر الاخفاء و التستر و التظاهر بتجاوز مجتمعها القومي للتمايزات العرقية من أصول إفريقية او من أصول أمريكا اللاتينية ، إلا أن التمييز العنصري يطفو للسطح بشكل اعتيادي و في أزمنة متقاربة و بنفس الصورة ، يكون طرفها المعتدي رجل شرطة او حكم جائر او سياسة طبقية.
لقد تعاطت الإدارة الأمريكية و نخبها القومية مع وضعية السود ، ليست تفاعلا و استجابة لنضالات السود ، بل لما شكلت هذه القضية من عنصر احراج و تأثير سلبي على المستوى الدولي و ما تضعه من إعاقة أمام الهيمنة و التحكم، و هو ما دفع بالمتحكمين سواء من الجمهوريين او الديمقراطيين بالإدارة الأمريكية إلى الغاء الجانب العلني من التمييز العنصري، من خلال التعديل الثالث عشر للدستور الأمريكي سنة 1865 الذي نص صراحة على الغاء العبودية بكل أشكالها باستثناء من أدينوا بجريمة داخل الولايات المتحدة، و كان الرئيس الأمريكي لينكولن قد اعلن” أن نظام العبودية يضعف مهمة أمريكا الديمقراطية في العالم من خلال تعريض الأمة بتهمة الرياء”.
لم يغير هذا التعديل الدستوري شيئا من وضعية الأمريكيين السود ولو أنه شكل مكتسبا ديمقراطيا، فقد عرفت سنة 1915 حدثا تاريخيا موثقا في ذاكرة الزنوج الأمريكيين حيث ستشهد هده السنة إنتاج فيلم ” naissance d’ une nation” لمخرجه دافيد وارك غريفيث، سيعرضه الرئيس ويلسون في البيت الأبيض و دعا لمشاهدته النخبة الأمريكية، اعتبر الرئيس ويلسون المعروف بنزعته العنصرية الفيلم ” تاريخا مكتوبا بالبرق” ، عرف الفيلم مشاهدة جماهيرية حطمت كل الارقام، و يحكي دور البيض في التاريخ الأمريكي المجيد ، في الوقت نفسه يقدم و يصور الأمريكي من أصول الأفريقية كائنا منحطا، شبيه بالحيوان و آكل للحم البشر و مغتصب للنساء البيض.
كان الفيلم تحريضيا خالصا ضد السود حيث أظهر جماعة كوكلوكس كلان العنصرية بمظهر رومانسي براق و حامية للضمير الجمعي الأمريكي.
كان الفيلم بمباركة الإدارة الأمريكية اعلانا صريحا على استمرار الأعمال الاعتدائية و الإجرامية ضد مجتمع السود ، و هي الممارسات التي وجدت في مجموعة من التشريعات و القوانين و على رأسها القوانين المعروفة بقوانين جيم كرو التي قررت مبدأ الفصل العنصري و إلى الأبد، خلفية لهذه الاعتداءات و التقتيل و الإهانات و التي ستستمر إلى حدود الخمسينات و الستينات من القرن الماضي، تاريخ بزوغ و إشعاع و امتداد نضالات و تضحيات الحركة المدنية الداعية لحقوق الأقليات بزعامة الدكتور لوثر كينغ ، و باقي الحركات التحررية في مجتمع السود كحركة ” قوة السود” و حركة “فهود السود” التي ستنتشر في أواخر الستينات إلى بداية الثمانينات إلى جانب حركات من قبيل “حركة مناهضة الحرب” اليسارية و حركة ” تحرر المرأة” و حركة المثليين. هذه المرحلة غطت الفترة الرئاسية لنيكسون و من بعده رولاند ريعان و باقي الرؤساء الذين سيأتون من بعدهما، و الذين كانوا في دواليب الإدارة الأمريكية و جزء منها، سيتعقبون هذه الحركات عبر قوانين جنائية ظاهريا بعيدة عنهم و ظمنيا و عمليا تمسهم بالمباشر و يتعلق الأمر بقوانين لمحاربة الجريمة و محاربة المخدرات و الارهاب و التشريعات إلاجتماعية و الضريبية ، ترسانة قيدت واستهدفت السود و المهاجرين و حركات اليسار ،و اي مختلف مع السياسات التمييزية ، و مناهض و رافض للثوابت التي تقوم عليها القومية الأمريكية.
رغم ايمان السود بالعقيدة الأمريكية و تقديمهم فروض الطاعة و الولاء لها، و قبولهم الإشراك و المشاركة في دواليب السياسة و القضاء و الجيش إلى حد وصولهم إلى سدة الرئاسة مع الرئيس باراك أوباما و قبله في وزارة الخارجية كونداليزا رايس و الدفاع مع كولن باول، و من داخل الحزبين الديمقراطي و الجمهوري. إلا أن هذه الأسماء و في رأي الراديكاليين من السود، و في مثل هذه اللحظات الساطعة بمظاهر العنصرية، يتحولون إلى المتشبهين بالبيض الذين قبلوا بالأساطير المؤسسة للعقيدة، التي تأخذ كل اسطورة فيها شكلا هزليا مأساويا، عند النظر إليها من منظار تاريخ السود او تاريخ إبادة سكان أمريكا الاصلين باعتبارها الخطيئة الام التي تنبع منها كل الخطايا الأخرى داخليا و دوليا.