“الامتحانات بين رغبة النجاح ورهبة الرسوب”
محمد أولوة: (أستاذ، فاعل جمعوي ونقابي)
يقال “عند الامتحان يكرم المرء أو يهان” كما يقال أيضا “يعز المرء أو يهان”، وهو مثل قديم، يعبر عن التحدي الذي قد يواجهه من لا يكف عن ادعاء أشياء أو التباهي بامتلاكه لطاقة خارقة، أو يبالغ في مدح نفسه، فيوضع على المحك وأمام اختبار ليثبت ذاته وصحة ما يدعيه فيكرم، أو يفشل في ذلك فيقع محط سخرية وإهانة واستهزاء.
لكن ارتباط هذا المثل بالامتحانات الدراسية وبطلاب المعرفة والعلم، جعل منه مقولة رهيبة، حيث تحول معها الامتحان إلى اختبار لذات المتعلم وشخصه وليس لمعلوماته وقدراته المعرفية والعلمية.
فأصبح للكثافة الدلالية واللغوية لهاته المقولة وقع وأثر فظيعان على نفسية الممتحن، بسبب الخوف من الفشل وما يرتبط به من حرج تجاه محيطه الاجتماعي وأسرته، ومن شعور بالهزيمة الشخصية، والضعف لمهاراته الذاتية.
لقد ألفنا سماع هذا المثل منذ فترة قديمة. تلك الفترة التي كنا نتابع خلالها تحصيلنا الدراسي في المدارس العمومية، وبكتب مدرسية كانت تنفع جيلا بكامله.
فما يدرسه تلميذ القسم الخامس مثلا يتركه لأخيه الذي يأتي بعده، فلا شبكة عنكبوتية ولا آلة حاسبة ولا محافظ مقوسة للظهور ولا دروس خصوصية ولا متتبع أو مراقب لسيرنا الدراسي بل جهل تام للوالدين بمستوياتنا وشعبنا، وكانت وصية الأب للمدرس هي أن يقوم بالذبح وسيتكلف هو بالسلخ…
وبالرغم من شظف العيش وبساطة الوسائل التعليمية فإن أغلب التلاميذ كانت لهم كلمة التميز والتألق، مقارنة مع حاضرنا الذي تأتي فيه النتيجة أحيانا دون طموحات الأهل وعكس ما يتوقعونه ولا تتناسب مع ما يصرفونه من أموال في المدارس الخصوصية وفي ساعات الدعم الإضافية التي تنشط بشكل مفرط طيلة السنة.
وبمجرد ما تضع الامتحانات أوزارها، وحتى قبل النطق بأحكام نتائجها المعزة للبعض و”المذلة” للآخرين وفق تلك المقولة التي يبث ذكرها الفزع والرعب في القلوب، تبدأ رحلة العمل الصيفي في الحقول والحصاد، وبيادر درس المحاصيل، والتجوال بمدخل القرية من حين لأخر، لبيع حفنة من ثمرات تساقطت ليلا من النخيل أو سلة من بواكر الثمار الصيفية المحلية التي نستيقظ فجرا للظفر بالتقاطها أو جنيها، فلا مجال للنوم بعد الفجر ولو بعد انتهاء الموسم الدراسي، اعتقادا من الأسرة أن العطلة الصيفية لا معنى لها وأنها مضيعة للوقت، فكدنا أن نهرم في صغرنا جراء تلك الأعمال وقسوة الحياة والحرمان من طعم إجازة للراحة والاستجمام بعد عناء كبير خلال العام الدراسي الطويل.
كانت ساعتها تبيض وجوه وتسود أخرى، في انتظار إعلان نتائج الامتحانات، التي كان يضرب لها ألف حساب رغم أنها لم تكن تقايض بهاتف ذكي أو لوحة إلكترونية أو مشاركة في مخيم أو حفلة أو سفر خارج الحدود الجغرافية للقرية، بل كان التشديد على النجاح وبلا مقابل يذكر.
لقد كان للأسرة من حيث لا تدري، دور كبير في بث القلق والتوتر قبل الامتحانات وبعدها، وفي تكريس الهلع والخوف من شبح الرسوب، وذلك بسبب انتظارها للمطلوب ألا وهو النجاح ولا شيء سواه، لاعتقادها أن في ذلك دليلا قاطعا على إخلاصنا وحبنا للوالدين وعلى سعينا لإسعادهم وانتشالهم من الفقر بنجاحنا، وبالتالي فالامتحان مناسبة لوضع ذلك السعي وذلك الإخلاص والحب على المحك.
فبحكم مقولة “عند الامتحان يعز المرء أو يهان” التي تؤطر الامتحانات، تحولت لدينا هذه الأخيرة إلى محنة، جعلتنا لا نتهم كثيرا بالتصرف المتوقع من الأسرة في حالة النجاح، بل ما نخشاه هو ردة فعلها حيال واقعة الرسوب التي عادة ما تتسم بالغضب وتتصف بالعنف المعنوي واللفظي، كاللوم والتوبيخ والتأنيب والاتهام بالتهاون والتقصير في المراجعة، وصرف الوقت في أمور تافهة عوض الدراسة، وبالوعيد بحرماننا من أشياء كثيرة ولو أننا لم نكن نستفيد من مصروف أو نتمتع بنزهة أو أي شيء يمكن أن يمنع عنا أو يضيع منا بسبب الرسوب.
وبغض النظر عن المؤاخذة عن المقولة الشهيرة السالفة الذكر التي ترجع أمر الرسوب بتلقائية إلى تقاعس التلميذ واستخفافه، وشعوره بالذنب والخجل وبالإحباط والإذلال، فإن الامتحانات لم توضع لتحديد التكريم من الإهانة ولا علاقة لها بالذات، بل هي فرصة لتقييم التحصيل الدراسي وتقويم الأداء المعرفي للممتحن. فالتتويج بالنجاح ليس إلا خطوة على الدرب تستوجب التزود بعزيمة الاستمرارية وتقوية القدرات. أما الإخفاق فهو محاولة غير موفقة، ورغم ما يشكله من موقف صعب ووضع قد يبدو قاسيا بعض الشيء، فلا يجب التعامل معه بالغضب والعصبية، بل اعتباره محطة مؤقتة للتزود بالمؤن والعتاد اللازم للوصول إلى النجاح المنشود.
وبما أن للامتحانات دورات استدراكية بل وبالإمكان الترشح لاجتيازها مرات عديدة، فمعنى ذلك أن تلك المحاولة “الفاشلة” قابلة للاستدراك ويجب أن تكون حافزا للبحث عن مكامن الضعف لمعالجتها وللمزيد من المثابرة وتكثيف الجهود، ومعرفة ما يجب التركيز عليه لتحقيق نتائج متقدمة مستقبلا ومؤهلة للنجاح. فالنتيجة السلبية مهما تكن مؤلمة فإنها غالبا ما تدفع المتعلم إلى صناعة التميز، فهناك من يتعثر في البداية ولكنه في النهاية يصبح معلما للآخرين قواعد النجاح، وسبل التفوق، ومبادئ الارتقاء…
فبالرغم من تداول هذه المقولة المرعبة وشهرتها منذ القدم، والتي أخرجت الامتحان من مجاله الطبيعي كوسيلة لقياس مستوى التحصيل المعرفي للممتحن وسبر لمعلوماته العلمية وخبراته وليس لذاته, فلا يمكن نكران ما يزخر به تراثنا الثقافي من حكم وأمثلة كثيرة لنجاحات وإنجازات عظيمة ولدت من رحم إخفاقات. كالحث على أن نتقبل الإخفاق ونعترف به كأمر واقع وأنه سوف يبقي مرا إذا لم نبتلعه ونجعل الطموح يخلصنا منه،.
وأن الأقوياء هم فقط من يمكن أن يتحملوا “الهزيمة” ويتعلموا منها بقدر ما يتعلمون من الانتصار، وأن الشيء الوحيد الذي يجعل تحقيق الحلم مستحيلا هو الاستسلام “للفشل”، وأنه من الطبيعي جدا أن نمر أحيانا على “الفشل” في طريقنا نحو النجاح، وأن التفوق لا يأتي نتيجة للنبوغ بل يتحقق بالإصرار والتصميم عليه،… إلى غير ذلك من أقوال مأثورة وأمثلة عمن عانوا من فشل ما، واستطاعوا أن يتجاوزوه وصنعوا منه نجاحا باهرا، وذلك من خلال مقاربة تجربة “الفشل” والرسوب من منظور إيجابي بما يمكن من استخلاص للدروس والعبر وتحويل الإخفاق إلى وقود يحرك الإرادة القوية نحو تحقيق النجاح.