عقد الأغلبية الذي لا ينفرط !
في الوقت الذي تسير فيه الحكومة مترنحة وهي على وشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة ويتم طي صفحة ولايتها المشؤومة، التي لم تعمل خلالها سوى على مراكمة الخيبات والانكسارات، بسبب التخبط والارتجال في اتخاذ القرارات وإصدار البلاغات الليلية العشوائية، وتواتر الخلافات والأزمات بين مكوناتها الأساسية، وعدم القدرة على الابتكار واجتراح الحلول الملائمة لأبرز المشاكل وأهم القضايا التي ما انفكت تشغل بال الرأي العام في التعليم والصحة والشغل وغيره…
مازال بيننا أناس يواصلون الحديث عن قرب انفراط عقد الأغلبية، مقتصرين في تصوراتهم فقط على عدم التوافق بين أحزابها حول مشروع قانون ما أو في معالجة ملف أو مناقشة مبادرة، وكأن هذه الأغلبية في بداياتها الأولى تتلمس طريقها نحو محاولة تحقيق أول الأهداف المسطرة في برنامجها، والحال أنها قضت زهاء أربعة أعوام في السير على غير هدى. كيف إذن لعقدها أن ينفرط وهو الذي لم يكن أبدا محكما، أو كما يقول المثل الدارج “من الخيمة اخرج مايل”؟
فحكومة سعد الدين العثماني الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ليست في واقع الأمر إلا نسخة رديئة من سابقتها بقيادة سلفه عبد الإله ابن كيران، إذ منذ أن تم تشكيلها في أبريل 2017 والانتقادات الشديدة اللهجة بما فيها تلك الصادرة عن أعلى سلطة في البلاد تكاد لا تتوقف، بسبب سوء التدبير والتلكؤ في مباشرة الإصلاحات الكبرى وتنفيذ المشاريع التنموية المبرمجة، فضلا عما تعاني من تفكك واختلاف في المرجعيات وتوترات متواترة، وافتقار رئيسها إلى الرؤية الاستشرافية والقدرة على تدبير الخلافات، مما جعلها تعيش في دوامة من الأزمات، إذ ما إن تخرج من أزمة حتى تدخل في أخرى، دون أن يجدي معها نفعا ما أجري لها من “عمليات تجميل” عبر التعديلات الوزارية الجزئية وشبه العامة، في الرفع من أدائها وتجويده…
إذ على الرغم مما ظل العثماني يردده خلال خرجاته الإعلامية على قلتها وأثناء لقاءاته الحزبية، حول تماسك الأغلبية وعدم وجود أي أزمة بين أحزابها، ويدعيه من أن العلاقة بينها “سمن على عسل” وأنه “لا خوف من أي تصدع ممكن للحكومة، كما يعتقد بعض المغرضين من دعاة التيئيس والتبخيس”، فإن الوقائع المتلاحقة تفند مزاعمه وتكشف بوضوح عن فقدانه البوصلة وتحوله إلى مجرد إطفائي، حيث أن الفجوة بين أطيافها لم تفتأ تتسع كبقعة زيت عائمة، منذ أن أخفقت في تقديم مرشح واحد يمثلها في انتخابات رئاسة مجلس المستشارين، التي عاد فيها الفوز مرة ثانية للأمين العام السابق لحزب الأصالة والمعاصرة المعارض حكيم بنشماس في 15 أكتوبر 2017، متقدما ب”63” صوتا من أصل 91 على منافسه نبيل شيخي عن الحزب الأغلبي الذي حصل فقط على 19صوتا.
فطالما سمعنا الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين يتحدثون عن قرب تفجر الأغلبية وتصدعها، بالنظر إلى تصاعد حدة التطاحنات والصراعات، وتواصل المزايدات السياسوية بين مكوناتها الأساسية. بيد أن لا شيء من تلك التوقعات تحقق، لسبب بسيط هو أن العثماني ومعه باقي أمناء أحزاب ائتلافه الحكومي يجيدون إخفاء رؤوسهم في الرمال وعدم إخراجها إلا بعد هدوء “الزوابع”، مرجحين مصالحهم الذاتية والحزبية الضيقة على مصالح البلاد والعباد. وإن لا، فلماذا لم ينفرط عقد الأغلبية عند اشتعال “الحرب” بين أقوى طرفيها حزب العدالة والتنمية وحليفه التجمع الوطني للأحرار في عديد المناسبات، وخاصة منها تلك التي اتهم فيها رشيد الطالبي العلمي وزير الشباب والرياضة السابق حزب “المصباح” بالسعي إلى محاولة تخريب البلاد وإحكام قبضته على زمام الأمور؟ ثم لماذا لم ينفرط العقد في عام 2018 عندما هاجم رئيس الحكومة السابق والأمين العام السابق لذات الحزب عبد الإله ابن كيران خلال مؤتمر شبيبة الحزب، وزير الفلاحة والصيد البحري ورئيس حزب “الحمامة” عزيز أخنوش والكاتب الأول لحزب “الوردة” ادريس لشكر، وما تلى ذلك من تفاعلات سلبية بين أطراف الأغلبية؟
كثيرة هي الأزمات التي اندلعت داخل الأغلبية، وتواصلت على إثرها المماحكات السخيفة وتبادل الاتهامات بين مكوناتها، إلى الحد الذي ظن فيه البعض أن لحظة انفراط عقدها وتفجرها باتت وشيكة، ليس بين حزب العدالة والتنمية وحليفه التجمع الوطني للأحرار وحسب، بل حتى بينه وبين حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لأسباب متعددة منها مشروع قانون “الفوترة الرقمية” الخاص بالتجار الصغار وقانون “محاربة الإثراء غير المشروع” وتسريب مسودة مشروع القانون المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح… بالإضافة إلى ما نراها عليه في سنتها الأخيرة من تسابق محموم للفوز بتشريعيات 2021، وخلافات حول النظام الانتخابي.
إن ما يجمع بين الأغلبية الحكومية أكبر بكثير مما نعتقده واهمين يفرق بينها وكان يهدد بانفراط عقدها، وأن ما جعل ولايتها التشريعية تستمر يعود بالأساس إلى الرغبة الجامحة في الحفاظ على المناصب والامتيازات، وليس إلى المصلحة العليا للوطن كما يدعي البعض. فما يبدو لنا خلافات لا يعدو أن يكون ملهاة سياسية ولفت الأنظار عن المشاكل الحقيقية. وعليه تبقى مسؤوليتنا ثابتة في ما يجري من عبث وميوعة، بعزوفنا عن الانتخابات وترك الساحة السياسية فارغة أمام الانتهازيين، مما أدى إلى فرز حكومات معطوبة، ضعيفة وغير منسجمة وعاجزة عن توفير الأمن والاستقرار وتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم لأبناء الشعب…
اسماعيل الحلوتي