سؤال آخر إلى حكام الجزائر: ما ذا يحجُب عنكم الرؤية إلى هذا الحد، أيها الناس؟
محمد إنفي
بالطبع، أيها السادة، هذا السؤال،على غرار الأسئلة السابقة، لا ينتظر أي جواب؛ ذلك أن الجواب يقتضي الجلوس مع النفس ومحاسبتها؛ وهذا يتنافى والغطرسة و”جنون العظمة” الذي يميز الأنظمة العسكرية.
فالجواب الصحيح يوجد، إذن، خارج دائرتكم؛ إنه يوجد عند الذين خبروا مؤامراتكم ويعلمون أهدافكم ويدركون مراميكم. وبمعنى من المعاني، فالجواب يوجد عند الشعبين الشقيقين الجزائري والمغربي؛ فالأول يعيما اقترفتموه من آثام في حقه بنهب وتبديد عائدات الثروات الطبيعية الهائلة التي تزخر بها بلاده؛ أما الثاني فيعلم ما هي أطماعكم التوسعية على حساب أراضيه ومصالحه الحيوية.
لكن واضع السؤال أعلاه يتمنى، بكل صدق وإخلاص، لو أنكم تجلسون إلى أنفسكم وتُقيِّمون مدى الربح والخسارة، بنزاهة وموضوعية إن كان لكم حظ منهما، في معاداتكم لمصالح دولة وشعب لهما عليكم دين تاريخي سيظل في عنق بلادكم إلى يوم الدين وستحاكمون عليه، أنتم ومن سبقوكم، في محكمة التاريخ المشترك بين البلدين والشعبين؛ كما سيحاكمكم التاريخ على تعثر بناء الوحدة المغاربية بسبب ما تناصبونه من عداء لجيرانكم.
فهلا تحليتم بشيء من الشجاعة، وتمعَّنتم في موقف دولتكم منالوحدة الترابيةللمغرب منذ خمس وأربعين سنة بالتمام والكمال، وتساءلتم عما جنت بلادكم من ذلك؟ وهلا تأملتم، أيها الحكام، في واقع بلادكم وفي واقع بلادي، فتستخلصوا الدروس من التاريخ ومن الواقع؟ فيا ليتكم تتخيلوا كيف كنا سنكون، نحن وأنتم، لو كانت هذه العقود قد استثُمرت في البناء المشترك سواء على المستوى الثنائي أو على مستوى دول المغرب الكبير!!!
لقد مرت الخمس والأربعون سنة، من جانبكم، في التآمر على الوحدة الترابية للمغرب؛ الشيء الذي كلف خزينة بلادكم أمولا طائلة (مئات المليارات من الدولار، إن لم تكنمئاتالآلاف من المليارات) تم تبديدها في سبيل قضية ليس للشعب الجزائريالشقيق فيها صالح ولا منفعة، ولا تمثل له أية أولوية أو رهان. أما بالنسبة للمغرب، فقد قضى هذه السنوات الطويلة في مواجهة مناورات بلادكم الهادفة إلى النيلمن حقه المشروع في استرجاع أقاليمه الجنوبية من المستعمر الإسباني، والعمل على تثبيت هذا الحق على أرض الواقع، ميدانيا وديبلوماسيا.
بصفة عامة، مجهودات بلادي لم تذهب سدى؛ فبعد أن نجحت في وضع حد لتسرب مليشيات البوليساريو – المسلحة بأموال الشعب الجزائري الشقيق – إلى أراضينا؛ وبعد أن نجحت في تحجيم ضراوة الديبلوماسية الهجومية لبلادكم، التي استنزفت بدورها خزينة الدولة الجزائرية، انصرفت بلادي، رغم أنها لا تتوفر لا على بترول ولا على غاز، إلى التنمية بكل أبعادها (الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والبيئية والثقافية…) في أراضينا المحررة سلميا بواسطة المسيرة الشعبية الخضراء. ويكفينا كدليل على ما وصل إليه التقدم في هذه الأراضي، أن يرى العالم، بأم عينه، أن مدن أقاليمنا الجنوبية أصبحت تضاهي مدننا الشمالية؛ ويكفينا فخرا، نحن المواطنين العاديين، أن يكون بمدينتي العيون والداخلة حي ديبلوماسي بكل منهما، وأن يصل عدد التمثيليات الديبلوماسية بهما، في وقت قياسي، إلى عشرين قنصلية عامة؛ والمستقبل القريب يعد بالمزيد.
بودي، أيها السادة، ألا أصف كل تطور إيجابي تعرفه قضية وحدتنا الترابة، بالصفعة الموجعة لكم؛لكنيلم أجد كلمة أبلغ منها في سياقنا الحالي؛ هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، ليقينيأن للصفعة فوائد؛ فقد تنبه الغافل أو شارد الذهن، وقد تنفع في استعادة الشخص (الذاتي أو المعنوي) لوعيه، وقد تكون بمثابة درس في السياسة والتدبير فتحول دون تحول الصفعة إلى صعقة.
في الواقع، تعددت الصفعات الموجعة التي تلقيتموها تباعا؛ فكل سحب اعتراف بـ”جمهورية الوهم”، هو صفعة مدوية لديبلوماسية بلادكم؛ وتكريس مجلس الأمن الدولي لدولتكم كطرف رئيسي في النزاع الإقليمي حول أرضنا بحكم التاريخ والجغرافيا، يمثل صفعة أسقطت عنكم بقوتها ورقة التوت التي كنتم تتدثرون بها؛ وكل قنصلية تُفتح في العيون أو في الداخلة، تشكل صفعة حدتها تزيد عن حدة سابقتها؛ ومن دون شك، أن أوجع هذه الصفعات (صفعات القنصليات)، هي صفعة افتتاح قنصلية أمريكية بمدينة الداخلة.
وتبقى أقوى صفعة على الإطلاق وبكل المقاييس، من جهة، اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء، باعتبار مكانتها كدولة عظمى وعضو دائم بمجلس الأمن؛ ومن جهة أخرى، اعتماد حلف “الناتو” خارطة المغرب بأقاليمه الجنوبية المسترجعة.
فماذا أنتم فاعلون بعد هذا الاعتراف الصريح بمغربية الصحراء من طرف أقوى حلف عسكري في العالم؟ فحتى حلف وارسو لم يعد له وجود حتى تحتمون به في عدائكم للمغرب. ثم ما ذا قدمتم كبديل لمقترح الحكم الذاتي الذي اعتبره المنتظم الدولي مقترحا جادا وواقعيا؟ لا شيء مطلقا، إلا ما كان من “إنا عكسنا” والتشبث باستفتاء تقرير المصير الذي ألغاه مجلس الأمن من دائرة اهتمامه بعدما تيقن من استحالة تنظيمه.
أتمنى، خالصا، أن تستفيقوا، أيها السادة، من غفلتكم، وتفهموا أن أطماعكم التوسعية لا حظ لها من التحقق. ألا يكفيكم أن هذه الأطماع والعداواتالمصاحبة لها وإيديولوجية الحرب الباردة قد حجبت عنكم الرؤية لكل هذه المدة؟
ألا ترون أن أمر هذه الأطماع، الذي انطلىعلى كثير من الدول، خلال فترة الحرب الباردة -دون الحديث عن الفقيرة من هذه الدول التي تم شراء مواقفها بأموال الشعب الجزائري (خلال فترة الطفرة البترولية)-قد انكشف لدى الكثير من تلك الدول، فسحبت اعترافها بدويلة الوهم تباعا، ولم يعد يعترف بها إلا بعض الأنظمة القليلة جدا التي لا وزن لها ولا تأثير في الساحة الدولية؟
خلاصة القول، إذا لم تستفيدوا، أيها السادة، من دروس الخمس والأربعين سنة الماضية ومن الدرس الذي يلقنه لكم الواقع على الأرض، عمرانيا وبشريا واقتصاديا واجتماعيا وديبلوماسيا، فاعلموا أن ما يحجب عنكم الرؤية ليس العداء والأطماع فقط؛ بل أيضا قصر النظر وقلة الحكمة أو انعدامها والعيش فيعالم الزيف والافتراء، بدل عالم الحقيقة.
إن العمل على تصدير أزماتكم الداخلية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) والتغطية عليها بزيادة منسوب عدائكم للمغرب، لن يفيدكم في حل مشاكل بلادكم، ولن يلبي مطالب شعبكم الذي خلع عنكم الشرعية بمقاطعته للاستفتاء على الدستور الجديد. والنتيجة، أنكم تعانون، اليوم، من خصاص مهول في الشرعية الدستورية والشعبية.
فتأكدوا، أيها الحكام، أن لا الشعارات الرنانة والزائفة ستحميكم من غضب شعبكم، ولا “المؤرخون الجدد للعبث”(عبد الحميد جماهري) سينيرون طريقكم نحو المستقبل، سواء كانوا مغاربة أو جزائريين أو من غيرهما من الدول العربية.
مكناس (المغرب)، في 11 يناير 2021