امرأة بألف رجل !
على إثر تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي لشريط فيديو يوثق لفضيحة فساد انتخابي، بطلها وكيل لائحة أحد الأحزاب في انتخابات الجمعة 6 غشت 2021 الخاصة ب”غرف التجارة والصناعة”، حيث تم تصويره وهو يوزع أوراق مالية على عدد من الأشخاص. تحركت النيابة العامة وأجري تحقيق في النازلة، أدى إلى إصدار المحكمة الابتدائية بمدينة كلميم حكما يقضي بإدانة المتهم بثلاث سنوات حبسا نافذا، وغرامة مالية قدرها 70 ألف درهم، مع تجريده من حقوقه الوطنية. فيما حكمت على شخصين آخرين ثبت تورطهما معه بسنة نافذة.
وهو الحكم الذي خلف ارتياحا كبيرا في أوساط المهتمين بالشأن العام والجمعيات الحقوقية المناهضة للفساد، التي تفاءلت خيرا بتفاعل النيابة العامة السريع مع ما ورد في شريط الفيديو من صور، معتبرين أن إدانة المتورطين خطوة هامة في اتجاه مكافحة الفساد، يحذوهم الأمل في أن تليها خطوات أخرى أكثر جرأة وصرامة.
بيد أنه وبخلاف الطريقة التي تمت بواسطتها معالجة هذا الملف وإنفاذ القانون في حق المفسدين، استاء الكثيرون مما تعرضت إليه إحدى النساء بمدينة مراكش، حيث تعالت الأصوات مستنكرة ومنددة باعتقال السيدة جميلة سعدان الملقبة ب”أم بألف رجل” رفقة ابنها ذي العشرين ربيعا، التي أمرت النيابة العامة إيداعها السجن المحلي الوداية دون إجراء بحث دقيق في الموضوع، يوم السبت 7 غشت 2021 بتهمة “إهانة مؤسسات منظمة والقيام بتوزيع ادعاءات ووقائع كاذبة، بهدف المساس بالحياة الخاصة للأشخاص والتشهير”، فيما أطلق سراح ابنها بعد ذلك بكفالة.
ولعل جريرتها الوحيدة كما يتداولها الشارع المراكشي، أنها لسذاجتها آمنت بدولة الحق والقانون، وأرادت من منطلق غيرتها الوطنية أن تنخرط في مكافحة الفساد، وتساهم بما تتوفر عليه من إمكانات بسيطة في تنظيف المجتمع من المفسدين والعابثين بسمعته. لكنها وأمام ضعف حيلتها لم تجد من وسيلة أخرى تعينها في التعبير عن مواطنتها الخالصة عدا إحداث قناة في اليوتوب بعنوان “أم بألف رجل”، يساعدها ابنها في تصوير أشرطة الفيديو. وهكذا تحدثت في شريطها المصور عن وجود عديد الوسطاء والسماسرة والمستثمرين في العقار والسياحة الجنسية، يمارسون “القوادة” بين مدينتي مراكش وأكادير. وأدرجت فيه أسماء بعض الشخصيات التي استطاعت إقامة مشاريع ضخمة بتمويل من عائدات الاتجار في الفتيات، كما أنها حددت مناطق أخرى خاصة بالدعارة الراقية…
فالإبلاغ عن الجريمة كيفما كان نوعها، قبل أن يكون واجبا وطنيا يعاقب بموجبه القانون كل من ثبت تستره على وقوع جريمة ما، هو كذلك حق على المواطن ممارسته بحرية، لغرض الإسهام في تنمية وتقدم مجتمعه، تخليق الحياة العامة وتكريس الخيار الديمقراطي. ويعد هذا الإبلاغ أيضا تفعيلا لدور المجتمع في مكافحة الفساد، على أن يتم توفير الحماية القانونية اللازمة للمبلغ أو الشاهد، في إطار تشجيع كافة أفراد المجتمع على الإدلاء بما يتوفرون عليه من بلاغات وشهادات مدعمة بالوثائق الثبوتية على وقائع فساد وغيره…
وجدير بالذكر أن ملك البلاد محمد السادس لم ينفك يشدد في أكثر من خطاب على ضرورة تضافر جهود جميع فعاليات المجتمع إلى جانب الدولة في اتجاه التصدي لمختلف أشكال الفساد، وجعل محاربته شرطا أساسيا في تحقيق التنمية المستدامة. ويحضرنا هنا قوله في خطاب 20 غشت 2014 بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، إذ قال: “اللحاق بركب الدول لن يتم إلا بمواصلة تحسين مناخ الأعمال، ولاسيما من خلال المضي قدما في إصلاح القضاء والإدارة، ومحاربة الفساد، وتخليق الحياة العامة التي نعابرها مسؤولية المجتمع كله، مواطنين وجمعيات، وليست حكرا على الدولة وحدها”.
فالمثير للريبة والاستغراب هو أن تسارع النيابة العامة إلى إصدار أمر باعتقال “المتهمة” والزج بها في السجن فور انتشار شريط الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي. ألم يكن من الأجدر إرجاء قرار الاعتقال إلى حين إجراء بحث دقيق حول أقوالها، واستدعاء الشخصيات التي ذكرتها بالإسم للتحري والبحث في مصادر ثروتها وغيره من الإجراءات الواجبة، والحرص على حمايتها باعتبارها من المبلغين عن جرائم فساد، كما يقتضي منطق العدالة ومحاربة الفساد والجريمة المنظمة، حسب رأي بعض الحقوقيين؟ وفي حالة ما إذا اتضح أن ادعاءاتها باطلة ولا أساس لها من الصحة، إذاك فقط يمكن ترتيب الأثر القانوني عليها، حتى تكون عبرة لمن تسول له نفسه التشهير بالآخرين والاعتداء على حياتهم الشخصية، وإلا فإن متابعتها تعتبر إعلان حرب صريح على كل من يجرؤ على محاولة فضح جرائم الفساد خاصة الكبرى منها.
إن ما جاء على لسان المتهمة “جميلة سعدان” من تصريحات خطيرة، يضعنا جميعا أمام مسؤوليتنا التاريخية والأخلاقية وحتى السياسية، إذا كنا نسعى فعلا إلى تطهير بلادنا من مختلف مظاهر الظلم والقهر والفساد. فليس من المعقول أن يتواصل مسلسل التضييق على الحريات وخنق الأصوات المنادية بالتغيير وتزايد الاعتقالات التعسفية، خاصة عندما يتعلق الأمر بملفات فساد والاتجار في البشر واستغلال الدعارة في الاغتناء الفاحش وغير المشروع، وهي كلها أفعال تؤكد المواثيق الدوليه على أنها انتهاك لحقوق الإنسان.
لأجل ذلك وغيره كثير، نطالب بالإفراج الفوري عن المتهمة الملقبة ب”أم بألف رجل”، لما نلمس في تصريحاتها من صدق وغيرة على وطنها، وإسقاط المتابعة القضائية في حقها وابنها، وندعو الأجهزة القضائية إلى تحمل مسؤوليتها، والتعجيل بفتح تحقيق نزيه بخصوص مضامين الشريط/القنبلة.
اسماعيل الحلوتي