نوستالجيا ، في البال اغنية قصة أغنية ” كعكع يا زبيدة ! “
عبد السلام المساوي
الكل يردد أغنية ” كعكع يا زبيدة ” ، الكل يرقص على إيقاعات ” كعكع يا زبيدة ” …انها أشهر وألذ اغنية أمازيغية – ريفية …انها الأغنية التي تتعالى عن الزمان والمكان ، تتحدى اختلاف الألسن وتنوع الانتماءات …أغنية ولدت في الناظور لتنتشر مغربيا فعالميا …تسمعها في الأعراس والحفلات ، في الحانات والكابريهات ، في الفضاءات المفتوحة والعلب الليلية …تسمعها نهارا وليلا ، هنا وهناك …تغطي كل الأمكنة في نفس الأزمنة …يغنيها الريفي ويغنيها من لا يفقه في الأمازيغية حرفا …انه منطق السوق قبل أن يكون فن الموسيقى …
ما أن يعلن قائد الفرقة ” كعكع يا زبيدة ” حتى يهتز الجمهور ، في هذا المكان او ذاك ، في الرباط ، في الدار البيضاء ، في طنجة ، في أكادير ، في مراكش ….بنات العلب الليلية ، عندما يرغبن في التعرف على الزبائن القادمين من الريف – الأسخياء جدا – يوحين الى الفرقة الموسيقية بأن تغني ” كعكع يا زبيدة ” …
كعكع ! ” تزلعي !” ، فيضي ، انتشري وانشري جسدك ! …يقال للمرأة ” كعكع !” عندما تكون جميلة ، بدينة وطويلة ، مبهكنة ومغرية ….يقال لها ” كعكع !” عندما تجلس على أريكة ، عندما تتمدد فوق الفراش ، وكعكع هنا ” تقلشي ” حسب تعبير الأشقاء الجزائريين ؛ تعني أنشري أطراف جسدك بكل عفوية وفوضوية ! لا تبالين بأحد ! وزعي أطراف جسدك بكل حرية وتلقائية ! كسري الضبط والانضباط ! دمري طقوس الجلوس وقواعد النوم ! البسي لباسا أبيضا شفافا ودعي جسدك يتكلم لغة لا يفك سننها الا العاشقون ! …
عندما أسمع اغنية ” كعكع يا زبيدة ” أعود إلى ذاتي ، الى طفولتي ، الى الفضاء الذي فيه نشأت وترعرعت …اتذكر تضاريس الحي الذي احتضنني …أتذكر اهلي واحبابي …أصدقائي وجيراني …اتذكر نماذج وشخصيات وشمت وجودي …اتذكر عالما أعطته اغنية ” كعكع يا زبيدة !” نكهة خاصة ….لهذا قررت أن أحكي قصة هذه الأغنية ؛ النشأة والمسار …وسأحاول أن أرسم بورتريهات لشخصيات صنعت أغنية ” كعكع يا زبيدة ! “…
اسمه محمد ، لكنه معروف لدى الجميع ب ” البراقي ” ؛ رجل متوسط القامة ، بل إنه يميل إلى القصر ، بنية جسمية مقبولة ، يكاد أن يكون وسيما لولا تعب الحياة وكثرة الإدمان ، شعر ناعم ممشوط على طريقة ” المونيو” ، حيوي ونشيط ، كوميدي وساخر ، ينكت بعفوية وابداع ، يعلق بتهكم ممتع على كل منظر وشخص ، يستطيع أن يستخرج الضحكة من اعماق المهموم ، مسالم وصبور ، يتواصل مع كل الأجناس والأجيال ، محبوب لدى الجميع …يتكلم العربية في وسط أمازيغي يعجز أهله عن نطق كلمة عربية واحدة بشكل سليم …متمكن من اللغة الفرنسية ، عندما يتكلمها يثير استغراب وإعجاب المستمعين ؛ وهذا راجع الى كونه هاجر إلى الجزائر في الأربعينيات ، وهو طفل صغير ، وراجع الى احتكاكه بالفرنسيين باعتباره كان مكلفا بحراسة مزرعة العنب لأحد المعمرين الفرنسيين…
زوجته خدوج ؛ امرأة تجاوزت الأربعين سنة ، لا تعبأ بعمرها البيولوجي الذي ذاب في عمرها البيولوجي الذي تؤسسه ماسي الطفولة ؛ نشأت يتيمة وفقيرة ، اشتغلت في المنازل والحقول باحثة عن أجر زهيد لمساعدة أمها التي تشتغل مهربة السلع من مليلية الى الناظور ….تحدت قساوة الحياة ؛ الحرمان المادي والوجودي ، لم تعرف سلطة الأب فدمرت سلطة الرجل بإطلاق …هي المرأة التي أقسمت الا ترضخ لرجل ؛ تزوجت مرة فمرتين ، وفي الحالتين كان الزوج يريد إخضاع خدوج للتقاليد والأعراف ؛ حبسها وخدمة السيد ؛ رفضت الذل والمهانة ، فكان الطلاق مصير التجربتين…
خدوج تريد أن تعيش حرة طليقة ، سيدة وحاكمة ؛ وكان الزواج بالعائد الغريب من الجزائر ، المسالم والوديع ، الباحث عن امرأة تأويه وتحميه ، امراة قوية البنية ، طويلة وممتلئة ، ليست جميلة لكنها جذابة ، صوت جهوري لكنه انوثي ، قهقهة خاصة …كل من يقف امامها يشعر بهيبة – خوف ، يهابها الاهل والجيران ، النساء والرجال ؛ لا احد يستطيع الدخول معها في نزاع او صراع …بقدر ما هي طيبة مع البعض في لحظات الفرح والانتشاء ، بقدر ما هي عنيفة ، بذيئة اللسان مع البعض الآخر في لحظات الغضب والهياج …انها المرأة الوحيدة التي تواجه الرجال في مجتمع ذكوري بامتياز …اذكر مرة : رجل من رجال الحي خاطب البراقي – زوج خدوج قائلا : ” اسيدي برافو ! نحن لا نجرؤ ان نقرأ خدوج السلام وانت تجرؤ على مشاركتها الفراش !!!” …
في السبعينيات من القرن الماضي ، عاد البراقي من الجزائر الى الناظور ، وجد نفسه عاطلا ؛ أخوه ” محند” الذي هاجر إلى ألمانيا أواخر الخمسينيات ، بعث له حوالة ليدبر امره . فكر محمد البراقي في استثمار هذه ” الماندا ” ليخرج من العطالة والبؤس ؛ اشترى عربة كبيرة ( كارو ) تجرها بغلة ..
في الصباح الباكر يقصد البراقي سوق الجملة ، مثله مثل زملائه اصحاب العربات ، ينقل الخضر والفواكه ، وهذه مهمة تنتهي مع العاشرة صباحا . بعد ذلك يأخذ مكانه في محطة العربات المجرورة من طرف البغال والحمير في الساحة المجاورة للسوق “SOKO ” ، وهذا السوق هو الذي تحول الى المركب التجاري حاليا …ينتظر دوره لينقل البشر المحملين بالسلع . عندما يأتي المساء تنسحب كل العربات ، يعود اصحابها الى منازلهم بحثا عن شيء من الراحة في انتظار فجر الغد – موعد سوق الجملة .
عربة البراقي مازالت في مكانها ، فصاحبنا تعود عندما ينهي عمله يقصد حانة ” اسبنيولي ” ليحتسي كؤوسا تنسيه هموما سابقة واخرى لاحقة …تمر الساعات ، يفارق النهار ويعانق الليل ، يخاصم الليل ويتصالح مع اللاوعي …” سبنيولي ” يطلق صفارة الانذار ، حان موعد إغلاق باب الحانة بعد افراغها من الزبناء ، على البراقي ان يشرب كأسه الاخير ، وقد يزيده الباطرون كأسا او كأسين تقديرا لحسن السلوك …
يغادر البراقي الحانة ، يجد زبيدة ( اسم البغلة التي تجر العربة ) ، يجدها في انتظاره ، بحركات غريزية تعبر عن فرحتها بعودته سالما ، يدخل مع زبيدة في حوار حميمي ، يصعد العربة بصعوبة ، ولما تتأكد زبيدة من أن صديقها أخذ مكانه تقوم بالباقي ….زبيدة تعرف الطريق جيدا ، كيلومتران ، المسافة التي تفصل بين المحطة والدار ، تقطعها زبيدة في ظرف نصف ساعة …البراقي جاثم في مكانه ، امن مطمئن ، فهو في حفظ ورعاية زبيدة …وهو في أقصى حالات الانتشاء ؛ ارتفع عن الواقع بالامه وعانق الحلم بلذاته ، تعالى عن المعقول لينخرط في اللامعقول ؛ يحطم الطابوهات ويفسح المجال للجسد ونزواته ، يغني بكل اللغات ؛ الفرنسية ، الاسبانية ، العربية ، الامازيغية …ولغات خاصة به ، لغات لا تصلح للتواصل ولكن للتعبير عن كينونة البراقي …وبين وصلة غنائية واخرى ، يصيح مخاطبا بغلته “اكعكع يا زوبيدة ” ، زوبيدة لا تستحق أن يقال لها ” الرا ” بل ” كعكع ” …زبيدة تشق طريقها في تناغم انطولوجي مع البراقي ؛ أنهما يشكلان وحدة طبيعية .ففي البدء الانسان حيوان ، والبراقي لم يتخل عن طبيعته ، ولم ينسلخ وجوديا عن حقيقته ، من هنا كان الآخر بالنسبة إليه هو البغلة – زبيدة ؛ تربطهما علاقة وجدانية ، فيها حب ووفاء ، تقدير واحترام ، لا يمكن لاحدهما الاستغناء عن الآخر ….
ونحن أطفال ، ونحن صغار ، كنا نسهر الليل ، خصوصا في فصل الصيف ، ننتظر عودة البراقي …بعض نساء ورجال الحي ، ايضا ، في الموعد ….من بعيد نسمع دندنات البراقي ونسمع الجملة الشهيرة ” كعكع يا زبيدة !” ….الست زوجته فقدت أعصابها من طول الانتظار ” طلع لها الدم ” …ونحن أبناء الحي كانت تغرينا ” حرارة الاستقبال ” التي تجمع بين الحبيبين كلما امتد التأخر …يصل البراقي ، يتلقى التحايا من طرف أبناء الحي ” اهلا البراقي !” يجيب بعبارات دالة واخرى غير دالة ، يفجر المكبوت ويدغدغ لاشعور المنتظرين ويطلق العنان ” للهو والليبيدو ” …تنزله وبعنف الست من العربة ؛ في البداية تبدأ عملية تفتيش الجيوب ، فإن وجدت مالا كثيرا ، وللست واسع النظر والتقدير ، خبيرة بمردودية العربات ، الحصة اليومية تتراوح ما بين 40 و 60 درهما .
فإن كانت الجيوب ممتلئة ، تغرقه عطفا وحنوا ، حبا وثناء …وتباهي به المتفرجين من الجيران ؛ انه السيد ، يزهو وينفق ….اما اذا كانت الجيوب فارغة فانها تشبعه صفعا وركلا ، سبا وشتما ، تغلق باب المنزل بعنف ومرارة لينام البراقي حيث تنام زبيدة …يسدل الستار ، ينسحب المتفرجون ، والبراقي يشكو حاله لزبيدة ” كعكع يا زبيدة ! “.
” كعكع يا زبيدة !” جملة اصبحت مشهورة ، شاعت فاصبحت على كل لسان والجميع يرددها ؛ النساء والرجال ، الصغار والكبار …ولكونها ذائعة الصيت ، تلقفها احد الفنانين بالناظور ، بل إنه كان نجم الغناء بالناظور في السبعينيات ؛ انه فريد الناظوري .
ولكي يحافظ على نجوميته ، استجاب لرغبة جمهوره فقرر أن يغني ” كعكع يا زبيدة ” …وضع كلمات الأغنية ، وأخذ يبحث عن اللحن الذي سيزيد الأغنية شهرة ومتعة ، هنا استنجد فريد الناظوري بالمطربة الشهيرة سميرة توفيق …طبعا الاختيار كان ناجحا لانه كان ذكيا ، فسميرة توفيق كانت المطربة المعشوقة بامتياز من طرف جمهور الريف ، معشوقة طربا وقبل ذلك جسدا …الكل كان يعشقها الى حد الجنون ، الجميع يردد اغانيها البدوية …كانت سميرة توفيق تعتبر محور الجمال ومقياسه ، انها المراة التي بلغت المطلق على مستوى الجمال ؛ بعيونها السوداوين الواسعتين ، بخانتها الموقعة ، بجسدها الممتلئ جدا ، بغمزتها المغرية ، بحركاتها الانثوية ، بشيء ما من هذا جثمت على عقول وقلوب رجال الناظور وشبابه واستقطبت غيرة بنات ونساء الريف .
وكانت المرأة جميلة في الناظور بنسبة تشبهها بسميرة توفيق ، وكان الرجل عندما يجد نفسه في الناظور امام امراة جميلة ويحاول التقرب منها فتترفع وتتكبر مختالة بجمالها ،يخاطبها قائلا : ” ماذا بك تغترين ، هل انت سميرة توفيق ؟!! ” وهذا خطاب على كل لسان .
فريد الناظوري ، ابن الشعب ، ذوقه من ذوق الناس ، صدح بأغنية ” كعكع يا زبيدة !” بلحن اغنية سميرة توفيق ” يا هلا بالضيف …ضيف الله …” انتقلت الاغنية من الوجود بالقوة الى الوجود بالفعل …استقبلتها الجماهير بشكل هستيري …انها الأغنية التي انست الجميع ما قبل وما بعد !
وكانت المتعة الجمالية ، وكانت اللذة الفنية ، عندما غنتها بنكهة أنثوية ، فنانة راقصة ريفية ، عندما غنتها فريدة الحسيمية ، غنتها ايقونة الريف ، الجميلة جدا ؛ جميلة بجميع مقاييس الجمال عند أهل الناظور آنذاك . قارنوها بسميرة توفيق فقالوا : فريدة الاجمل …انها ريفية …وللعصبية هنا قيمة خاصة ؛ قريبة وبنت البلد ، نلمسها ، نراها ، نتواصل معها…احب الناس الأغنية واحبوا اكثر فريدة …هلوست الرجال وازعجت النساء ….” كعكع يا زوبيدة ! ” …كان العرس ناجحا عندما تحييه فريدة …تغني وترقص ” كعكع يا زوبيدة ! ، تخرق وجدان المدعوين وتسافر بعقولهم …ما ان تظهر فريدة في العرس ، ما ان تبدأ في التمايل ، ما ان تحرك بطنها حتى يدخل الجمهور في سكرة صوفية ….، يصيح البعض ، يهتف البعض ، يكبر البعض …الكل يعشق الأغنية ويعشق الأغنية الجسد الذي تنبعث منه الأغنية ….تشرع فريدة فريدة في الغناء ، يتواصل معها الجميع ….يتأوه الجميع ، يردد الجميع ” كعكع يا زوبيدة !” الكل هنا حاضر من أجل فريدة ….النساء تسكنهن الرغبة في معرفة سر المرأة التي سلبت عقول وقلوب رجالهن واولادهن …والرجال جاؤوا لخطب غنج فريدة …انها محور الوجود …انها الاجمل …انها امرأة ودونها أشياء …ترقص فريدة موظفة مفاتنها ، مستثمرة مناطق جسدها الحساسة ….يهيج الرجال يتسابقون نحوها لتقديم الولاء…يعلقون الاوراق النقدية على صدرها وحوضها …الاوراق النقدية بمختلف العملات ؛ من الدرهم المغربي الى المارك الالماني مرورا بالخولد الهولندي فالفرنك الفرنسي الى البسيطة الاسبانية….المال يفقد قيمته في حضرة فريدة …الرجال كرماء مع فريدة بقدر كرمها في توزيع الابتسامات الجذابة والكلمات المهدئة …ترضي الجميع وتوهم الجميع…
ينتهي العرس صباحا ، الكل يصدمه الواقع ، ذهبت فريدة وبقيت الزوجة ، يتفحصها رجلها ، يتأملها ، يقارن ! يندب حظه ، يسب زوجته – جحيمه …يتذكر فريدة ، يهذي ، يجن….وتبدأ رحلة المشاكل بين الزوجين التي غالبا ما تنتهي بالطلاق ….واعرف الكثير من الرجال الذين طلقوا زوجاتهم قربانا لفريدة ، وفاء لجمالها وأنوثتها ….
وما زالت الأغنية تزداد تألقا وشهرة ، وما زالت الأغنية تملأ الفضاءات الليلية ، تحرك أجساد البنات وجيوب العشاق ، والجميع يغني ” كعكع يا زوبيدة ! ” …