كرم الحاج المعطي
كرم الحاج المعطي
بعد انصراف جميع التلاميذ الى منازلهم.
حاولت بعجالة جمع أدواتي و إقفال النصف المتبقي من النافذة الوحيدة في القسم.
أما النصف الآخر فلقد تم إغلاقه بصفة نهائية منذ مدة.
رغم الطلبات المتكررة لإصلاحه, كان الجواب الوحيد من طرف المدير:
” لم يدرج في ميزانية الترميم لهذه السنة. اطلب المساعدة من جمعية الآباء”.
هذا فعلا ما قام به أحد الآباء, حيث استغنى عن الزجاج واستبدله بقطعة من الكارطون ثم غلفها بجزء من البلاستيك حتى لا يمتلئ القسم بخيرات الشتاء.
” اللهم العماش و لا العوارة”
هذا هو تعليق أحد المفتشين أثناء إحدى زيارته لهذه الفرعية.
أقفلت باب القسم ثم عبرت الطريق الفاصل بين المدرسة ومطحنة الزيتون.
هذه البناية الوحيدة المتواجدة أمام فرعية ” النواصر”, كانت تضم حانوتا و سكنى للحاج المعطي. باقي ساكنة الدوار كانت تقطن في سفح الجبل أو متفرقة حوله.
لقد كان لي موعدا هذا اليوم مع الحاج المعطي. نادرا ما أقوم بزيارته في مقره.
ولكن كثرة الإلحاح هذه المرة حتمت علي زيارته في بيته.
فرعية “النواصر” التي لا تبعد عن قرية أبا محمد إلا ببضع كيلومترات. كانت تتكون من حجرتين تتناوب عليها أربع مجموعات. كنا نحن – المدرسين – نقوم بالتنقل اليومي ما بين الفرعية والقرية.
مرة بواسطة الدراجة النارية و غالبا صحبة السي علي في سيارته الشعبية: رونو4. ونقتسم طبعا مصاريف البنزين و إصلاح السيارة في حالة الأعطاب.
منطقة النواصر منطقة فلاحية جميلة جدا.
كانت حجرتي الدرس تحادي الوادي اليابس. تصل المنطقة ذروة جمالها ورونقها في خضم فصل الربيع.
فتصبح لوحة فنية بامتياز. ناهيك عن طيبوبة وكرم الساكنة. هذه السمة النبيلة المتأصلة في كل سكان المنطقة ,التي حظيت بشرف لقائهم, تعد كقيمة مضافة وخاصية نادرة.
وجبات متنوعة وغنية بما تزخر به المنطقة من خيرات كانت تقدم لنا نحن المدرسين كل يوم. ناهيك عن الزيتون والزيوت الطبيعية التي يخصص جزء منها للمدرسين أثناء موسم الجني.
” تستهلوا كل خير. تهلاونا غير في القراية ديال الدراري”.
هذه الخيرات التي يمنحها السكان من صميم قلبهم هي عربون المحبة والتقدير التي يكنونها لرجل التعليم.
تلاث سنوات قضيتها في هذه الفرعية, تركت بصمتها بشكل بين في حياتي.
شاركت الحاج المعطي براد الشاي المنعنع بعدما بادرته بالتحية. و كانت لذة هذا الأخير بمعية “الحرشة” تنسيك تعب اليوم بكامله. احتسيت الكأس بسرعة غير معهودة وأنا في انتظار إشارة الحاج على أحر من الجمر.
لقد اقترح علي أن أختار كبشا من بين أكباش زريبته.
علما أنه تاجر وفلاح معروف في المنطقة بجودة ماشيته. هذا يعني أيضا أن الأثمنة ستكون مناسبة للجودة لا محالة.
” هل أسطيع تأدية ثمن الكبش؟”
هذا هو السؤال الذي لم يبارحني بالمرة منذ أن طرح الحاج علي هذا الاقتراح.
لقد اضطررت للقيام بعملية التوفير منذ بضعة أشهر. هذه العملية الصعبة أفرزت بعد جهد جهيد مبلغا متواضعا بالمقارنة مع أثمنة الخرفان.
لكنه مبلغ كبير بالمقارنة مع راتبي المتواضع! في نفس الحين كنت أشعر بغبطة لا متناهية. أخيرا أستطيع أن أساعد أسرتي وأشتري خروفا من راتبي. نشوة لها طعم خاص.
أوراق الخمسة والخمسون ألف درهم ثنيت ورقة بورقة و وضعت في الجيب الأمامي للسروال. كانت لا تفارقني بالمرة. كلما استبدلت السروال إلا وحرصت على أن أنقل المبلغ بعد عده من جديد لأقبعه في الجيب الجديد. هذه العملية كانت تتكرر باستمرار.
“اختر الخروف الذي تشتهيه”. بادرني الحاج عند وصولنا الى الزريبة.
جالت عيوني جوانب الحظيرة.
أكباش من مختلف الأشكال و الألوان تتحرك من جانب الى آخر. وأخرى قابعة في مكانها أو منشغلة بالتهام العلف المقدم لها. تناسيت حديث الحاج وهو يسرد الأصناف المتوفرة لديه و خاصية كل نوع منها: الصردي, سلالة أبي الجعد, سلالة بني كيل, سلالة تمحضيت, الخ. و حاولت التركيز والبحث عن خروف صغير أو متوسط لا يفوق ثمنه المبلغ الذي بحوزتي.
ترددت بعض الوقت, ثم سألته عن ثمن أحد الخرفان التي وقع اختياري عليها.
” أختر خروفا كبيرا. الثمن لا يهمك. سنجد حلا مناسبا”
يا إلاهي كيف سنجد هذا الحل المناسب وأنا لا أملك إلا المبلغ المذكور؟ لا أريد أن أدخل في مسلسل القروض, كما لا أريد أن أتخطى إمكانياتي المادية التي لا يمكن مقارنتها مع وضعية الحاج.
هذا الأخير كان يزورني من حين لحين في الفصل و يطلب مني أن أدون في مذكرتي بأنه أقرض شخصا معينا مبلغا ماليا.
وعندما يسترد ماله يعود ليخبرني بذلك, حتى أشطب على ” الاتفاقية”. هذه العملية – التي هي بالطبع ليست من واجبي القيام بها – كانت تتكرر باستمرار وتتعلق بمبالغ جد عالية.
مبالغ لم يسعفني الحظ أنذاك أن أتصورها. وكنت أقوم بهذه ” المهمة” بصدر رحب.
عندما تيقن الحاج أنه صعب علي حسم أمر اختيار الكبش, امتطى على خروف صردي مسمن, بني اللون و ذو قرون ملتوية.
” هذا هو خروفك”.
حاولت جهد المستطاع أن أستفسره عن ثمنه, لكن بدون جدوى.
أدخلت يدي في جيبي لأسلمه المبلغ الذي بحوزتي أولا و بعدها سنرى كيف سأسدد ما تبقى, إذا دعت الضرورة.
” لماذا أنت جد مستعجل لدفع النقود؟ لا تشغل بالك. سأحتفظ بالخروف هنا الى غاية يوم العيد”.
انصرفت في اتجاه دراجتي النارية التي كانت قرب القسم وأنا في حيرة من أمري.
سأصاب بسكتتة قلبية لا محالة عندما سأسمع ثمن هذا الخروف الضخم.
أبلغت أسرتي المتواجدة بتطوان بأنني اشتريت خروف العيد. لكنني لم أستطع إيجاد الجواب حول كيفية نقل الخروف من دوار النواصر بالقرية إلى تطوان.
ازدادت حيرتي عندما أبلغت الحاج المعطي “بالمشكل”.
” أين هو المشكل هنا ياسيدي؟” كان رد الحاج.
وعدني الحاج بأنه سيتكلف بنقل الخروف يوم العيد صباحا الى العنوان الذي أعطيته في تطوان.
عدت بضعة أيام قبل العيد الى مدينتي و أنا في حيرة جديدة. رغم الثقة الكبيرة التي أكنها للحاج, كنت متخوفا من هذه ” الصفقة”. لازمني هذا التخوف طيلة المدة التي قضيتها قبل العيد.
ليلة العيد كانت ليلة مستعصية.
كلما سمعت مأمأة الخرفان عند الجيران كلما ازداد تخوفي. حاولت أن أبحث – وأنا أتقلب في فراشي – عن حل تاني في حالة إذا لم يحضر الكبش.
فكان الحل هو الذهاب مبكرا لشراء خروف من السوق. ليلتها لم يغمض لي جفنا. و لكن غبطتي كانت لا توصف وأنا أفتح الباب في الصباح الباكر لأستقبل الخروف الصردي و بمعيته قنينات الزيت البلدي, سلة من البيض و أشياء أخرى…
انتابت علامات الدهشة وجوه أفراد الأسرة عند رأية الكبش.
“كبش واشمن كبش هذا”. علق جارنا السي أحمد الذي كان يساعد دائما في الذبح.
احتفلنا بالعيد بشكل جيد. و عندما عزمت على العودة الى مقر عملي, انبعتث من جديد مسألة ثمن الخروف.
كم هو المبلغ الذي سيطلب مني تأديته؟ من الأكيد أن ثمنه أكثر بكثير من ذلك المبلغ الذي وفرته خصيصا لهذه الغاية. هذه شهادة كل من رأى الخروف.
انتظرت وقت الاستراحة في اليوم الأول من الدراسة بعد العيد,عبرت الطريق المؤدية عند الحاج. بعد التحية شكرته شكرا جزيلا على كل ما قام به.
” هل كانت الأسرة راضية على الخروف؟” رد علي الحاج.
وضعت يدي في جيبي و أنا اسأله من جديد عن ثمن الخروف.
” هذه هدية بسيطة لك” ثم تابع كلامه أمام اندهاشي:
” أقسم بالله لن آخذ ولو سنتيما واحدا من عندك”.
ملحوظة:
بعد قضاء سبع سنوات من التدريس في المغرب, انتقلت سنة 1988 الى هولاندا لأمارس نفس المهنة.
بعد مدة تحملت مسؤولية الإدارة الى يومنا هذا. لقد مرت على هذه الواقعة أكثر من أربعين سنة. رغم هذه السنين فلا زلت أتذكر تلك التجارب بكل غبطة وافتخار.
مصطفى الخداري
نائب مدير مدرسة بأمستردام