أسبوع العمل في أربعة أيام فقط!
عادل بن حمزة
إن مفهوم العمل يعتبر من بين المفاهيم التي أثارت نقاشاً لافتاً على مدار جزء كبير من التاريخ الإنساني وإلى اليوم، حيث إن المتأمل في تطور البشرية سوف يقف على حقيقة كون ارتكاز كل الحضارة الإنسانية على العمل، بل وإلى اليوم ما زال العمل عصب الحياة وشاغل الناس وموضوع السياسات العمومية والمنافسات الانتخابية والسياسية.
يرجع ذلك لطبيعة المفهوم، حيث إنه يشغل جميع مناحي الحياة، لدرجة أن البعض أطلق على حضارتنا وصف أنها “حضارة العمل”.
لقد شكل النظر الفلسفي في مفهوم العمل، منطلقاً لعدد من المدارس الفكرية، خاصة الاقتصادية منها، لتقديم تعريفات دقيقة حول الموضوع، كما أن التطورات التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها، تمحورت تمحوراً أساسياً ومصيرياً حول موضوع العمل وعلاقات العمل، إذ يمكن القول إن تاريخ الإنسانية هو تاريخ العمل وعلاقاته.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع وارتباطه بمختلف أوجه الحياة الإنسانية، فإنه استطاع أن يؤثر في الفلسفة والتاريخ، على اعتبار أن العمل هو ما يميز الإنسان عن الحيوان، وأنه يتسم بإرادية واعية، الهدف منها هو التأثير على الطبيعة وتغيير شكلها وإنتاج قيم قابلة للتبادل، أي أن العمل عند الإنسان يتجاوز تحقيق الحاجيات الخاصة غريزياً، بل هو تفاعل واع مع المجتمع والمحيط بصفة عامة، ما يجعل للمفهوم شحنة سوسيولوجية أيضاً.
لكن بعدما كان العمل مسألة طبيعية في حياة البشر، فإنه تأثر بالتطور الذي عرفه نمط الإنتاج، بالتوازي مع التحولات التي عرفتها المعرفة التقنية وانعكاسات ذلك على حجم الإنتاج، إذ أدت التقنية إلى مظهر غير مسبوق، يتعلق بفائض الإنتاج، وأن الأسواق لا تعاني من الخصاص بل من الفائض، كما أن التقنية، عوض أن تساهم في تخفيف الضغط على العمال، فإنها تحوّلت إلى عامل مساهم في رفع مستويات البطالة وهشاشة العمل، لأن جزءاً من الأرباح أضحى يُحقّق على حساب الأجور ومناصب العمل وظروف العمل.
وإذا كان تنظيم العمل على المستوى الدولي قد اهتدى إلى تحديد ساعات العمل وأيام العمل الأسبوعي، والحقوق الواجب منحها للعمال، وذلك منذ بداية الثلاثينات من القرن الماضي، فإن التحولات التي يعرفها اقتصاد المعرفة اليوم، وما ينتج منه من خلق للثروة مع مناصب عمل أقل، أصبح يفرض على الإنسانية مراجعة مجموع القواعد القانونية التي أطّرت مفهوم أسبوع العمل لقرابة خمسة عقود.
لقد أكد عالم الاقتصاد الأميركي جيريمي ريفكين وغيره من الباحثين قبل قرابة ثلاثين سنة، أن العالم دخل “ثورة اقتصادية” و“نموذجاً اقتصادياً جديداً،” اصطُلح عليه بالثورة الصناعية الثالثة، والتي تمثل الأس الذي شيدت عليه في السنوات القليلة الماضية الثورة الصناعية الرابعة التي يهيمن فيها الذكاء الاصطناعي، وهي ثورة فتحت الباب واسعاً لما يسميه ريفكن في كتاب صدر قبل عشرين سنة بـ”نهاية العمل”، وهي مرحلة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني وحافلة بالتحديات والفرص. والمثير للانتباه اليوم هو السرعة التي يتطور بها اقتصاد المعرفة، إذ بدأ الحديث عما بعد الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة، إذ إننا اليوم أمام ما يسمى بـCognitive Technology، وهي مقاربة أشمل من الذكاء الاصطناعي، تسعى لتجاوز أعطاب التقنية في الثورة الصناعية الرابعة، خاصة العلاقة بين ثلاثية: الإنسان، التقنية والإنتاج، ما يجعلنا عملياً ندخل زمن الثورة الصناعية الخامسة 5.0 التي تتزامن مع التحول التكنولوجي الهائل الذي سيعرفه العالم مع تكنولوجيا “الميتافيرس” وثورة الأنترنت من الجيل الخامس والسادس، إضافة إلى الكم الهائل من المعلومات التي يجب تخزينها وتحليلها.
لقد كان الاقتصاد السياسي البطالة قبل عقود، مقتنعاً بأن التطور الذي تعرفه التكنولوجية، وخاصة المعتمد على “الربو” والذكاء الاقتصادي، لن يغير جوهرياً من طبيعة العمل، إذ ستنقرض مهن وتعوضها مهن أخرى، كما حدث منذ الثورة الصناعية الأولى المرتبطة بالطاقة البخارية، غير أن الواقع الذي يعيشه العالم منذ سنوات، وسيعرفه بحدة أكبر في المستقبل، يقوم على حقيقة مفادها أن اقتصاد المعرفة الجديد يقضي على مهن دون تعويضها، بل إن كثيراً من المهن ستنقرض في السنوات القليلة المقبلة، وكل ذلك بسبب التطور التكنولوجي الذي تعوّض فيه الآلات الذكية الإنسان، في عالم يشهد ارتفاع الطلب على العمل بسبب ارتفاع عدد سكان الأرض، فكيف يمكن ربح معادلة استمرار التطور التكنولوجي، وفي الوقت ذاته حماية الحق في الشغل؟
لقد أثبت كبار المستثمرين في قطاعات التكنولوجيا أن تراجع فرص العمل هو الوجه الثاني لعملة التقدم العلمي، لذلك نجد عدداً منهم يتحدث عن الدخل الأدنى الذي يجب أن يحصل عليه السكان من أجل العيش، وأن هذا الأمر كان موضوع نقاشات سياسية وبرامج انتخابية خاصة في أوروبا خلال العقد الماضي، لكن جيريمي ريفكن يقدم وجهة نظر مختلفة، تنطلق من تمثل أخلاقي للتقدم العلمي، إذ يعتبر أن ما حققته الإنسانية اليوم من تقدم علمي يمنح الحق للبشر بالتمتع بوقت إضافي وبحياة اجتماعية وصحية أفضل، وكنوع من المكافأة الجماعية، فإن الأمر يتطلب مراجعة أيام العمل وساعات العمل التي كانت أيضاً موضوع سجالات انتخابية وسياسية قبل سنوات.
في السياق، أثبتت دراسة أجراها باحثون من بريطانيا وأيسلندا أجريت على 2500 من سكان أيسلندا بين سنتي 2015 و2017 ونشرت في حزيران/يونيو 2021، أن تخفيض ساعات العمل الأسبوعي إلى 32 ساعة دون تخفيض الأجر، يحسن الصحة الجسدية والنفسية، ويتيح للمستخدمين وقتاً إضافياً للأنشطة الرياضية والاجتماعية التي لها انعكاسات على تخفيض الضغوط الناتجة من العمل، كما يتيح الأمر أيضاً المساهمة في تخفيض مستويات البطالة عبر تقاسم الشغل.
وقد أكدت الدراسة أن 2500 من العمال الأيسلانديين الذين أجريت عليهم الدراسة، لم تتراجع مردوديتهم في العمل، بالرغم من تخفيض يوم من أيام العمل الأسبوعي، بل إن بعضهم تطورت مردوديتهم خلال مرحلة الدراسة، وتحسنت ظروفهم الصحية، وكانوا أكثر استعداداً للعمل بعد ثلاثة أيام من العطلة، وهو ما تؤكده دراسة أخرى أجريت سنة 2019 على 5000 من عمال “British Telecom” شملهم نظام العمل لأربعة أيام في الأسبوع. من جانب آخر، كان تقرير للمنظمة البريطانية ” 4Day Week Campaign ” نشر في أيار/ مايو 2021 قد أوضح أن أسبوع العمل من أربعة أيام من شأنه تخفيض مساهمة بريطانية من غاز ثاني أوكسيد الكربون بـ 127 مليون طن سنوياً، وهو ما يمثل نسبة الربع مما تنتجه بريطانيا، بما يعادل سحب 27 مليون سيارة من الشوارع البريطانية، وذلك راجع لتراجع التنقل عبر السيارات لأماكن العمل، وكذلك تخفيض استهلاك الكهرباء في الشركات. إضافة إلى ذلك، فإن تخفيض أيام العمل يتيح للكثيرين التنقل عبر الأقدام في الطبيعة، وطبخ الأكل في البيوت بدل استهلاك مواد مصنعة يتم إنتاجها في ظروف مضرّة بالبيئة.
نجاح تخفيض أيام العمل، كما ترى مجلة “Science& Vie” في عددها الأخير، يجب أن يقترن بتخفيض حقيقي لساعات العمل الأسبوعي، إذ إن تركيز عمل خمسة أيام في أربعة أيام يجعلنا أمام ساعات عمل طويلة قد تصل إلى 10 ساعات بالنسبة للأشخاص، ممن يعملون 39 ساعة أسبوعياً، وربما أكثر بالنسبة للذين يعملون عن بعد، وقد أثبتت دراسات علمية أنه من شأن هذا الوضع أن تنتج منه جملة من الأمراض تصل إلى حد السكتة القلبية، علماً أن أي نجاح لعملية تخفيض أيام العمل الأسبوع ستكون بحاجة لتحولات عميقة في المجتمع وفي الرؤية للعمل ولزمن العمل ونمط العيش، لأن من شأن عدم القيام بذلك أن يحوّل إجراء تخفيض أيام العمل بدون تأثير كبير.
تشير دراسات بريطانية أخرى تناولت الموضوع ذاته، الى أن تطبيق تخفيض أيام العمل الأسبوعي إلى أربعة أيام من شأنه إحداث 500 ألف منصب، شغل في القطاع العام في بريطانيا وحدها، وهو ما يمثل قرابة خُمس الباحثين عن شغل في المملكة.
كما أفاد معهد “Onepoll” أن 84 في المئة من الفرنسيين يوافقون على اعتماد نظام أربعة أيام عمل في الأسبوع إذا تم اقتراحه عليهم.
يبدو أن الإنسانية أمام حقيقة مرعبة وهي أنها تتجه إلى بطالة واسعة مع الاستمرار في التقدم العلمي الذي يرفع من القدرة الإنتاجية التي لن تتوافق مع القدرة الشرائية لملايين العاطلين من العمل، كما أن تداعيات جائحة كورونا لا تقتصر فقط على ما خلفته من ملايين العاطلين من العمل نتيجة قرارات الإغلاق العام والحجر الصحي، بل تتجاوز ذلك، لأن زمن الجائحة فرض على عدد من القطاعات تسريع إدماج الرقمنة في عمليات الإنتاج، بمعنى أن ملايين مناصب العمل التي فقدت لن يتم استرجاعها أبداً في المستقبل، فهل ستتجه الإنسانية لإحداث تحول جذري في من العمل وتخفيض أيام العمل الأسبوعي إلى أربعة أيام فقط؟ أم أن جشع الرأسمال سيحول دون ذلك؟
عن النهار العربي