سعيد الكحل يكتب: دبلوماسية الحكمة تُشتّت شمْل الانفصاليين وداعميهم
سعيد الكحل.
يواصل المغرب قطف ثمار دبلوماسية الحكمة والرزانة التي ينهجها منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش .
وقد تجدرت أسس هذه الدبلوماسية بفضل عنصرين رئيسيين : أولهما ، تجريد وزارة الخارجية من أي لون حزبي وضمها إلى وزارات السيادة ، ضمانا لاستقلاليتها عن التجاذبات السياسوية والنزوعات الإيديولوجية التي كادت ، في عهد حكومة البيجيدي، أن تتسبب في أزمات دبلوماسية مع دول الخليج التي تربطها بالمغرب علاقات متينة وتاريخية لمواقفها الثابتة والمبدئية من سيادة المغرب واستقراره ووحدته الترابية .
أما العنصر الثاني فيتمثل في حسن اختيار السيد بوريطة على رأس وزارة الخارجية لخبرته الدقيقة وإلمامه الواسع بكل ملفات العلاقات الخارجية للمغرب ومصالحه العليا .
فالسيد بوريطة يُنضِج الملفات المستعصية على نار هادئة حتى يفاجئ بها أصدقاء وخصوم المغرب معا( الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه ، استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ، منع الاتصال مع سفارة ألمانيا ، فتح 24 قنصلية في مدينتي العيون والداخلة ، إيقاف حركة النقل والتنقل بين إسبانيا والمغرب مما شكل حصارا ضاغطا على الموانئ الإسبانية واقتصاد المدينتين السليبتين سبتة ومليلية ، استعادة المغرب لمكانته ودوره الدبلوماسي والاقتصادي في إفريقيا ، سحب العديد من الدول لاعترافها بالجمهورية الوهمية ..).
هذه الإستراتيجية ضمنت للمغرب استعادة المبادرة ، فبات يتحكم في خيوط علاقاته الدولية ، خاصة مع الاتحاد الأوربي الذي دأب على ابتزاز المغرب بقضية الصحراء لمدة خمسة عقود، واستغلال موارده .
وضعية فرضت على المغرب تغيير إستراتيجيته عبر إعادة بناء علاقاته الدولية بما يضمن له استقلالية قراره السيادي وحماية ظهره من غدر الخصوم والأعداء . الأمر الذي مكّن المغرب من التعامل ندا للند مع الدول الأوربية التي اعتادت على الابتزاز وليّ ذراعه كلما حاول الدفاع عن مصالحه وحماية ثرواته .
فلم تعد أحكام المحكمة الأوربية ، وآخرها محكمة العدل الأوربية التي قضت ، في شتنبر 2021 ، بإلغاء الاتفاقية التجارية بين المغرب والاتحاد الأوربي بحجة أنها تشمل منتوجات الأقاليم الصحراوية ، لم تعد مثل هذه الأحكام تعني شيئا بالنسبة المغرب الذي بات يملك زمام أموره وقراراته . إذ أعلن حينها السيد بوريطة أن”الحكومة المغربية ليست طرفا في الدعوى لذلك ننتظر من الاتحاد الأوروبي أن يقدم طعنا في قرار المحكمة الأوروبية”.
لقد نجح المغرب في تغيير الموازين لصالحه ، فانتقل من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم الدبلوماسي والاقتصادي الصارم حماية لمصالحه العليا وقطعا لدابر الابتزاز . لهذا لم يستأنف الحكم كما كان يفعل من قبل ، بل جاء الرد صارما ومباشرا من العاهل المغربي ، في خطاب 6 نونبر 2021 ، بمناسبة الذكرى 46 للمسيرة الخضراء ، حيث وضع الشروط الواجب احترامها في أي شراكة مع الدول ، وخاصة الأوربية التي تاجرت بوحدتنا الترابية طويلا ، وفي مقدمتها :
أ ــ مغادرة المنطقة الرمادية (نقول لأصحاب المواقف الغامضة أو المزدوجة، بأن المغرب لن يقوم معهم، بأي خطوة اقتصادية أو تجارية، لا تشمل الصحراء المغربية).
ب ــ اتخاذ مواقف أكثر جرأة لصالح وحدتنا الترابية (ومن حقنا اليوم، أن ننتظر من شركائنا، مواقف أكثر جرأة ووضوحا، بخصوص قضية الوحدة الترابية للمملكة. وهي مواقف ستساهم في دعم المسار السياسي، ودعم الجهود المبذولة، من أجل الوصول إلى حل نهائي قابل للتطبيق).
ج ــ الالتزام بقرارات مجلس الأمن منذ 2007 (وهنا نلح على ضرورة الالتزام بالمرجعيات، التي أكدتها قرارات مجلس الأمن، منذ 2007، والتي تم تجسيدها في اللقاءات المنعقدة بجنيف، برعاية الأمم المتحدة).
ومعنى هذا التخلي نهائيا عن مطلب تقرير المصير والقبول بالحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية.
د ــ مغربية الصحراء ليس موضوعا للتفاوض(إن المغرب لا يتفاوض على صحرائه. ومغربية الصحراء لم تكن يوما، ولن تكون أبدا مطروحة فوق طاولة المفاوضات).
هكذا حسم المغرب أمره وتفرغ لتطوير قدراته الدفاعية وتنويع شراكاته الدولية تاركا الدول الأوربية في حيْص بيْص لم تستوعب نديّة وصرامة المغرب التي واجه بهما الابتزاز ، واللتين لخصهما السيد بوريطة في جملة ذات دلالة قوية ” إن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس”.
عاندت ألمانيا وإسبانيا شروط المغرب ،وحاولتا تركيعه ، كل بأسلوبها ومناوراتها ( ألمانيا حاولت التأثير على الاتحاد الأوربي لتعطيل عجلة النمو الاقتصادي للمغرب ، فيما إسبانيا جندت الهيئات الحقوقية والإعلامية المناهضة لسيادة المغرب على صحرائه والمناصرة للبوليساريو ، وكذا فِرقها البرلمانية للتشهير بالمغرب والضغط عليه بعد اتهامه “بالاعتداء” و”الابتزاز” على خلفية تدفق موجة من المهاجرين على المدينتين المحتلتين).
فشلت ، إذن ،كل محاولات الضغط والابتزاز من طرف ألمانيا وإسبانيا ، فلم يكن أمامهما غير تغليب المصالح المشتركة مع المغرب ومغادرة المنطقة الرمادية تباعا . وحملت رسالة الرئيس الألماني ،فرانك فالتر شتاينماير ،إلى صاحب الجلالة الملك محمد السادس ، دعوة لزيارة ألمانيا” من أجل”إرساء شراكة جديدة بين البلدين” ، وموقفا صريحا من المقترح المغربي مؤداه أن ألمانيا “تعتبر مخطط الحكم الذاتي الذي قدم في سنة 2007 بمثابة جهود جادة وذات مصداقية من قبل المغرب، وأساس جيد للتوصل إلى اتفاق” لهذا النزاع الإقليمي .
لم تنتظر إسبانيا طويلا حتى أعلنت عن موقفها المؤيد لمقترح الحكم الذاتي ، في رسالة من رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز،إلى جلالة الملك ، جاء فيها “تعتبر إسبانيا مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب سنة 2007 بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف”، ملتزما بـ “أنه سيتم اتخاذ هذه الخطوات من أجل ضمان الاستقرار والوحدة الترابية للبلدين”.
هذه خطوة مهمة اتخذتها إسبانيا لتصحيح أخطائها التاريخية التي ظلت تعرقل الجهود الأممية في سبيل إنهاء الصراع المفتعل. وأكيد ستكون لها آثار إيجابية على القرارات الأممية ، خصوصا وأن إسبانيا من الدول الرئيسية التي تشارك في صياغة القرار الأممي ذي الصلة .
إذن، إسبانيا لم تغير موقفها اقتناعا بالحق التاريخي للمغرب ، وإنما فعلت بعد أن حشرتها الدبلوماسية المغربية في الزاوية الضيقة ، فاضطرت إلى الرضوخ لشروط المغرب والاقتناع بأن “إسبانيا والمغرب مرتبطان بالتاريخ والجغرافيا” حسب تصريح وزير الخارجية الإسباني.
لهذا أكد ، رئيس الحكومة الإسبانية، في رسالته لجلالة الملك سعي بلاده إلى إعادة بناء علاقات جيدة وواضحة مع المغرب “هدفنا يتمثل في بناء علاقة جديدة، تقوم على الشفافية والتواصل الدائم، والاحترام المتبادل والاتفاقيات الموقعة بين الطرفين والامتناع عن كل عمل أحادي الجانب، وفي مستوى أهمية جميع ما نتقاسمه”. بهذا الالتزام تكون إسبانيا قد تخلّت عن تحالفها مع الجزائر وصنيعتها البوليساريو ، تاركة إياها تتجرع مرارة فشل مخططاتها العدائية ضد المغرب وتعيش عزلة دولية لن ينفع معها تقديم الرشاوى أو استدعاء السفراء .
بهذه المكاسب الدبلوماسية ، يكون المغرب قد نجح في تشتيت شمل أعداء وحدته الترابية وإعادة بناء علاقاته الدولية وفق الشروط التي تم تحديدها في خطاب 6 نونبر 2021.