ليس بالهندام وحده تتقدم الأمم!
مما لا جدال فيه أن من بين الأمور التي يتعين على الموظف العمومي الحرص على احترامها إلى جانب المحافظة على الوقت والمواظبة والإخلاص في أداء الواجب المهني، هناك أيضا الاعتناء بالهندام.
إذ ينبغي أن يلتزم بنظافة ملابسه دون المبالغة فيها حد التكلف ويسهر على حسن هيئته.
فذلك أدعى إلى نيل تقدير الزملاء والمرتفقين والإنصات إليه، وقد حثنا ديننا الحنيف على حسن المعاملة في القيام بمهامنا والنظافة الشخصية والحفاظ على المظهر والرائحة الطيبة، حتى نكون نموذجا للآخرين في البيت والمدرسة والمسجد والإدارة والفضاء العام…
فحديثنا هنا والآن عن الهندام ليس من باب الترف، بل هو نابع من تلك المراسلة التي بعثت بها إلى موظفيها من مدراء ورؤساء مصالح وموظفين، وزارة القيادي بحزب الأحرار مصطفى بايتاس المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان، تدعوهم من خلالها إلى الاعتناء بالهندام وحسن المظهر. معللة دعوتها بكون الموظف يعتبر ممثلا للمرفق العمومي في علاقته المباشرة بالمواطنين، ومشددة على أن يكون هندام الموظف محترما وملائما، سواء تعلق الأمر بقيامه بمهامه داخل مكاتب الإدارة أو خلال تعامله المهني مع المرتفقين أو أثناء مشاركته أو حضوره في الاجتماعات والأنشطة الرسمية كممثل للإدارة العمومية…
وهو ما أثار سجالا كبيرا بين الموظفين في مقرات عملهم وخارجها في المقاهي والبيوت وبين عدد من المواطنات والمواطنين في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انقسمت الآراء بين فريقين: فريق مؤيد وآخر معارض، إذ يعتبر الفريق الأول المؤيد لفحوى هذه المذكرة الوزارية أن الموظف بمثابة بطاقة تعريف للإدارة على مستوى حسن استقبال الزوار والمرتفقين والابتسام التلقائي في وجوههم والتواصل الإيجابي معهم وارتداء هندام يليق بمستوى المرفق العام الذي ينتمي إليه.
وفي المقابل يرى الفريق الثاني المناهض للمذكرة أن موضوع “اللباس المهني” يعد من بين الأمور غير المجدية التي يهدف أصحابها إلى لفت الأنظار عن المشاكل الحقيقية، على اعتبار أن الإدارة المغربية تعاني مما هو أعمق، فهي تتخبط في عديد النقائص والعيوب ومنها البيروقراطية والبطء في الإنجاز والتأخر في اعتماد الرقمنة وتحديث أنظمة الاشتغال، في حين أن ما يهم المواطن كثيرا هو أن يكون الشخص المناسب في المكان المناسب، وأن تقضى حاجته في وقت وجيز دون تسويف أو تلكؤ، وبعيدا عن الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ وغيره من الموبقات…
وجدير بالذكر أنها ليست المرة الأولى التي يطرح فيها موضوع الهندام للنقاش وتتضارب حوله الآراء، فقد سبق أن تمت إثارته عدة مرات من قبل في قطاع التعليم وغيره من القطاعات العمومية الأخرى.
كما هو الشأن مثلا بالنسبة للمذكرة المصلحية رقم 22/08 الصادرة بتاريخ 10 فبراير 2022 عن وزارة الشباب والثقافة والتواصل حول “العناية بالهندام”، بناء على ما تم تسجيله من عدم التزام الموظفين بارتداء هندام لائق سواء في مقرات العمل أو أثناء الاجتماعات الرسمية الداخلية والخارجية على هامش استقبال ضيوف مغاربة أو أجانب، داعية إلى لزوم الحرص على إرساء قواعد العناية بالهندام، انسجاما مع ميثاق حسن سلوك الموظف العمومي، الهادف إلى حسن تمثيل الإدارة وتشبع الموظف بثقافة المرفق العمومي، معتبرة أن هذا الجانب يعكس مدى أهمية تحسين صورة الإدارة واحترام أدوارها التمثيلية للدولة، بل ذهبت المذكرة إلى حد اقتراح ارتداء بذلة كاملة وربطة عنق أو جلباب مغربي أصيل…
فما يغيظ المواطن المغربي كثيرا، هو أن بلاده التي تزخر بالطاقات البشرية الواعدة والمتوثبة للعمل الجاد والمسؤول، والتي طالما أبهر أبناؤها العالم بأفكارهم النيرة وابتكاراتهم العلمية الرفيعة، هي نفسها التي تسند فيها المسؤوليات لغير مستحقيها ممن لا يجيدون عدا استنساخ تجارب سابقيهم الفاشلة، وإثارة الجدل حول طرق تدبيرهم للشأن العام.
ذلك أن مسألة الهندام أثيرت منذ أكثر من خمسة عقود من الآن. ونستحضر هنا المذكرة الوزارية رقم 223 الصادرة عن وزارة التربية الوطنية في 13 دجنبر 1968 بخصوص الهندام اللائق، التي تدعو نساء ورجال التعليم إلى مراعاة أناقة المظهر، المتمثلة في ارتداء الأنسب من الألبسة. وكذلك المذكرة الوزارية رقم 283 بتاريخ: 18 دجنبر 1979 عن “السلوك والهندام” الداعية إلى احترام المألوف من اللباس السائد في المجتمع.
ألم يكن حريا بوزراء بلادنا الذين لهم من الأجور والامتيازات ما يجعلهم يرتدون من البذل وربطات العنق الفاخرة ويركبون من السيارات الفارهة ما يضاهون به رؤساء عديد البلدان المتقدمة، الاهتمام بالمشاكل الحقيقية التي يعاني منها الموظفون المسحوقون الذين بالكاد تكفيهم أجورهم الهزيلة في تغطية مصاريف الشهر، وخاصة ما يرتبط بظروف العمل من حيث قلة التجهيزات الضرورية من كراس ومكاتب وحواسيب وغيرها، عوض استصدار مذكرات باهتة ومطالبتهم بالاعتناء بهندامهم لحسن تمثيل إداراتهم؟
نحن لسنا ضد اعتناء الموظف بهندامه واهتمامه بهيئته، لكننا نطالب أن يقترن ذلك بتحسين وضعه المادي وإنصافه بمنحه من الأجر ما يتماشى مع واقع المعيش اليومي وارتفاع الأسعار، وأن تبذل جهود كبيرة من أجل تأهيله حتى يكون قادرا على الاضطلاع الأمثل بمهامه. فالأكيد أن الأمم لا ترقى بالهندام وحده، بل بنشر العلم والمعرفة وحث المواطنين على احترام العمل والتحلي بروح المسؤولية والقيم النبيلة ومقاومة الفساد بمختلف أشكاله. لأننا لا نريد أن ينطبق علينا المثل القائل: “العكر على الخنونة” الذي يرسم صورة كاريكاتورية لمن تسارع إلى التزين ب”العكر” قبل التخلص من مخاطها.
اسماعيل الحلوتي