الانتحار السياسي والغباء الدبلوماسي للرئيس التونسي!
لم تعرف تونس الخضراء على مر عقود من الزمن زلزالا سياسيا ودبلوماسيا، كالذي أحدثه الرئيس قيس سعيد، ليس فقط لاستيلائه على السلطتين التنفيذية والتشريعية بإقدامه في 25 يوليوز 2020 على إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي وحل البرلمان بعد تجميد أعماله، ولا بإقرار دستور جديد على المقاس، بل لاستقباله رسميا المجرم إبراهيم غالي الملقب بابن بطوش زعيم جبهة البوليساريو الانفصالية والإرهابية. وذلك يوم الجمعة 26 غست 2022 بمطار قرطاج الدولي، على هامش انعقاد فعاليات منتدى التعاون الياباني الإفريقي (تيكاد 8) بتونس يومي: السبت والأحد 27/28 غشت 2022، ضاربا عرض الحائط بالعلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين: تونس والمغرب، ودون مراعاة لمشاعر الشعب المغربي.
وهو إلى جانب كونه يشكل طعنة غدر في ظهر المغرب، يمكن كذلك اعتباره انتحارا سياسيا وغباء دبلوماسيا سيكون له ما بعده. حيث أجمعت ردود فعل الكثير من الفعاليات المدنية والسياسية والنقابية والحقوقية في المغرب وتونس على استنكاره واستهجانه، وسارعت إلى إدانة هذا التصرف الأخرق بقوة، معتبرة أنه حلقة في سلسلة المواقف العدائية، التي ما فتئ الرئيس التونسي المستبد يعبر عنها في الأيام الأخيرة تجاه المغرب، بإيعاز من كابرانات الجزائر الذين حولوه إلى مجرد دمية طيعة بين أيديهم.
فما لم يستسغه الكثيرون مغاربة وتونسيون على حد سواء هو جحود الرئيس الفاشل “قيس سعيد”، الذي باع مبادئ تونس ومواقفها مقابل حفنة دنانير مقتطعة غصبا من أموال الشعب الجزائري، وأبى إلا أن يتنكر لما ظل المغرب حريصا على تقديمه لتونس من دعم مادي ومعنوي كلما ألمت بها المحن والشدائد.
هل نسي تلك الظروف العصيبة التي كانت تمر منها تونس عام 2014، حين اختار فيها العاهل المغربي محمد السادس أن يكون أول قائد عربي يزور العاصمة التونسية غير مبال بشبح الإرهاب الذي كان يخيم عليها، وهي الزيارة التي قوبلت بترحيب واسع من قبل التونسيين وغيرهم، خاصة بعد تمديد زيارته، مما اعتبرها محللون آنذاك بأنها “تعطي لتونس صورة جديدة بعيدا عن مشاهد الدمار والقتل”؟
وهل نسي ما أعرب عنه هو نفسه من شكر وتقدير للمغرب على المد التضامني الأخوي إثر المساعدة الطبية العاجلة التي أمر الملك محمد السادس في يوليوز 2021 بإرسالها لتونس، التي كانت حينها تشهد تدهورا على مستوى الوضعية الوبائية المرتبطة بجائحة “كوفيد -19″، معتبرا “أن المبادرة النبيلة تترجم وشائج الأخوة القائمة بين رئيس الجمهورية قيس سعيد والملك محمد السادس، ملك المملكة المغربية، وعلاقات التضامن والتآزر الراسخة بين الشعبين الشقيقين التونسي والمغربي”؟ حيث كان المغرب قد أرسل إلى تونس ثلاث طائرات عسكرية تحمل كل واحدة منها 13,5 طنا من المساعدات الطبية.
وأمام هذا الانتحار السياسي الذي فاجأ به الرئيس التونسي مختلف عواصم العالم، كان لا بد للأشقاء في تونس أن ينتفضوا ضد هذا الاستبدادي المصاب بجنون العظمة، حيث شهدت تونس موجة عارمة من التنديد بالاستقبال الرسمي الذي خص به دون غيره من الرؤساء الأفارقة الحقيقيين، زعيم مرتزقة البوليساريو في إطار القمة الثامنة لمنتدى التعاون الياباني الإفريقي (تيكاد 8).
إذ أثار هذا الفعل العدائي غير المقبول استياء عدد من الشخصيات البارزة داخل المشهد السياسي والإعلامي، التي رأت فيه “انحرافا خطيرا” إزاء ثوابت الدبلوماسية التونسية ويضر بالعلاقات الأخوية المتميزة بين البلدين والشعبين الشقيقين.
وفي هذا الإطار تفاعل عدد من المثقفين التونسيين ورؤساء الهيئات العمالية وغيرهم، مع ما وصفوها ب”السقطة المدوية للرئيس وانتحاره السياسي والدبلوماسي”، رافضين سلوكه العدائي تجاه المغرب وهناك من اعتبرها خطوة خرقاء تمثل قطيعة مع سياسة التوازن بين جارتيها وتنحاز إلى الجزائر ضد المغرب. وهناك كذلك من قال بأن مشاكل تونس سوف لن تبقى منحصرة فقط فيما تعرفه من نقص حاد في الحبوب والأدوية والسكر والقهوة والمحروقات وغيرها، بل انتقلت أيضا إلى نقص حاد لدى الرئيس في استيعاب قواعد السياسة وفنون الدبلوماسية، وهو ما سيقود إلى عزلة سياسية على الساحة الدولية قريبا.
فالرئيس التونسي ما كان ليقدم على هكذا سلوك أرعن لو لم يكن تلقى دروس “التقوية” في استراتيجية تصدير الأزمات الداخلية من قبل كابرانات الجزائر، وذلك عبر خلق أزمة مفتعلة مع المغرب لصرف نظر الشعب التونسي عما يقع من تدهور اقتصادي واجتماعي وسياسي.
إذ أن الاحتجاجات المناهضة لحكمه، والشعارات المنددة بما يصفه المتظاهرون انقلابا على التجربة الديمقراطية واستهدافا للمؤسسات والتضييق على الحقوق والحريات، تكاد لا تتوقف إلا لالتقاط الأنفاس. ثم أي خير يرجى من رئيس يسعى جاهدا إلى تحويل نفسه “أمبراطورا” بصياغة دستور يمنحه الحق في جمع واحتكار سلطات الدولة والدين لنفسه؟ أليس هو من أوقف أشغال البرلمان وقرر حله؟ ومن غيره قام بعزل عدد من القضاة وأحال العشرات على المحاكمة بتهم ترتبط بجرائم مالية واقتصادية وأخرى ذات صيغة إرهابية، بالإضافة إلى قيادة حملة اعتقالات ومحاكمات في حق معارضيه السياسيين؟
إن ما أقدم عليه الرئيس التونسي قيس سعيد من حماقة وتهور، يعد بحق انتحارا سياسيا ودبلوماسيا، لأنه دمر تقليدا ظل راسخا لعقود من حيث حرص تونس الدائم على عدم الانحياز إلى جهة دون أخرى في النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، كما سبق له أن دمر كل مقومات الديمقراطية وهيبة الدولة الحرة المستقلة في قراراتها. وليعلم أن التاريخ لن ينسى له أبدا هذه “الجريمة” الشنعاء التي ارتكبها في حق شعبه.
اسماعيل الحلوتي