سيكولوجية العنف في عالمنا المعاصر
يتفق المشتغلون بالعلوم الاجتماعية بعامة والعلوم النفسية بخاصة على تسمية “الفعل ” أو ” الواقعة ” أو ” السلوك” الحادث بصورة متواترة بالظاهرة لأن الظاهرة من سماتها العمومية والجبرية والتاريخية والتطورية ، فالظاهرة الاجتماعية عامة – تلاحظ في المجتمع عند طائفة من الناس ان لم توجد في الجزء الأعظم من هذا المجتمع وهي أيضا “جبرية ” بمعنى أن الفرد يشعر بأنه مجبر عليها وا ن كان أحيانا لا يلمس هذا الشعور في كثير من الظواهر لأنه تعود عليها وآلفها فأصبحت عادة بالنسبة له .
كما أنها تاريخية لأنها تمثل حقبة زمنية خلال فترة تاريخية من حياة المجتمع فهي تعتبر بداية ونهاية لسلسلة أو لعدة سلاسل متتابعة من تاريخ المجتمع وأخيرا فالظاهرة “متطورة” لأن من صفاتها التطور والتغير المستمر بشكل يختلف سرعة وبطئا.
ويعرف” أميل دور كايم ” الظاهرة بأنها عبارة عن نماذج م العمل والتفكير والإحساس التي تسود مجتمعا من المجتمعات ويجد الأفراد أنفسهم مجبرين على اتباعها في عملهم وتفكيرهم ، بل وهي تفرض على إحساسهم ، من ثم كان من الضروري وضع الظاهرة النفسية أيضا في مواجهة الظواهر الواقعية .
ان ظاهرة كظاهرة العنف قد فرضت نفسها على العالم أجمع خلال العقد المنصرم من هذا القرن ومن يدري لعل العقد القادم خلال الألفية الجديدة يحمل في طياته آمالا ينشدها العالم أجمع في تحقيق السكينة والسلام والمودة والوئام ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه أن الرياح قد تأتي بما لا تشتهي السفن حيث أن هناك من المؤشرات ما يرعب البشرية جمعاء من مظاهر العنف طبيعية وبشرية تكمن في الحروب المدمرة . والزلازل المفاجئة والبراكين الحارقة وزيادة ظاهرة تصحر الأراضي الزراعية وتلوث البيئة ، وانحطاط الأخلاق وكثير من المنازعات والشقاق وانفلات القيم والمعايير وتطاول الصغير على الكبير واضطراد ظاهرة اغتصاب الإناث وشيوع مسلسل قتل الأزواج مما أدى بالأسرة الى الانهيار والانحراف نتيجة تفاعلها مع متغيرات عصرية فاعلية خلال الألفية الجديدة التي نعيشها حيث أفرزت هذه المتغيرات الثورة المعلوماتية المتفجرة والعولمة لكل ما هو محلي أو إقليمي راسخ على المستويات الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وخصخصة الشركات ومعظم المرافق العامة مما أصاب العاملين بالخوف والهلع والتهديد بالفصل والتشريد واتباع سياسة اقتصاديات آليات السوق وإدخال نظام الحاسب الآلي “الكمبيوتر” في شتى مناحي حياتنا مما أدى بالعاملين المسنين الى الخوف من ضياع وفقدان وظائفهم بسبب هذا القادم الجديد وليس الخوف فقط من الكمبيوتر وانما يكمن الخوف أيضا من التغيير المطرد وكما اقتحم حياتنا الاجتماعية أيضا شبكات الإنترنت التي أدت الى تضييق رقعة العالم وكأنه مدينة واحدة ولما كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي القطب العالمي الأوحد فقد بدأت تعمل على “امركة” دول العالم النامي بداية من انتشار محلات ” ماكدونالدز ” للوجبات الأمريكية ومرور ببيع الأسلحة والتكنولوجيا لهذه الدول ونهاية بالغزو الفكري والثقافي لقطاعات كبيرة من شباب أمم العالم النامي ومن ثم زادت الفجوة اتساعا بين الأصل والصورة وبين الطابع القومي الأصيل والقالب الأجوف الدخيل في نظم التعليم والأعلام والاقتصاد والسياسية مما حدا بالإنسان العربي الى الدخول في دائرة ” الاغتراب” النفسي الذي يحوي ضمن أبعاده “التمرد” ويؤدي التمرد بدوره الى العنف
في أهمية الموضوع:
جاء بجريدة الأهرام يوم الأربعاء الموفق التاسع من يناير عام 1991 في الصفحة الرابعة تحت عنوان يقول “اعنف عقد” ذكرت مصادر الشرطة في الولايات المتحدة الأمريكية أن عقد التسعينات الذي يشهد توجهات نحو السلام سيكون أعنف عقد في تاريخ أمريكا حيث أنه لا يوجد أية دلائل على انخفاض موجة العنف المتزايدة في الولايات المتحدة مشيرة الى أن أبرز أسباب العنف هي الادمان على المخدرات وزيادة نسبة التشرد والبطالة والفقر فضلا عن سهولة الحصول على البنادق اليدوية . وليس الحال قاصرا على الولايات المتحدة بل أن موجات العنف العاتية وآثارها الطاغية منتشرة في كل عصر ومصر ومن عهد هابيل وقابيل حتى عصر الذرة وغزو الكويت في أوائل التسعينات من هذا القرن ان مظاهر العنف تجتاح العالم شرقا وغربا. وتعتبر بمثابة المعوقات العامة للسلوك الإنساني ، والتقدم الحضاري الهادف نحو الخير والرخاء والسلام وإذا زاد العنف بنفس المعدلات الحالية في أيامنا هذه فمعنى ذلك ان المجتمع الإنساني يتجه في مسيرته نحو عصر الغابة وينكس للوراء مستترا بوشاح الذل والفاقة وقد يعزى ذلك الى انحسار الأعراف الاجتماعية البدوية .
ولما كانت ظاهرة العنف تدخل في نطاق الظاهرة السيكولوجية من ناحية بيئة الفرد الواقعية ومحيطة السيكولوجي فان نمط تفاعله يتشكل من خلالهما ، ومن تبزغ الشخصية الإنسانية من الصراعات الداخلية والخارجي لتكون لمحطة النهائية ثم يبدأ الشعور العميق بالوحدة الداخلية والإحساس الواقعي بالذات ، وتبدو هذه المحكات تدريجيا أثناء تقدم الفرد وتطوره عبر مراحل العمر وإظهاره استعدادا للنضج أو عدم النضج نتيجة تفاعله مع دائرة الأشخاص الواسعة والخبرات والتجارب العديدة ، وهنا يتبلور نمو الذات أو نضج الشخصية من خلال مراحل عمريه متالية وتتضمن كل مرحلة “أزمة” تتسم بقابلية عدم التكيف وبالتالي احتمال عدم توافق أو زيادة في الطاقة الكامنة .
هذا وترتبط مكونات الشخصية بعضها ببعض حيث يعتمد كل جزء على الأجزاء الأخرى لكي تصبح الشخصية الإنسانية في حالة توازن وبذا تصبح الشخصية في حالة تعاون وانسجام كما تكون الشخصية في حالة توازن خارجي عندما تكون متجانسة ومتسقة مع البيئة الاجتماعية ولذا فان السلوك الإنساني يحدد وفقا للتفاعل بين الفرد وصفاته الشخصية من ناحية أخرى وهنا نتسائل كيف يتكون السلوك الشاذ عند فرد ما ؟ وتبدو وظيفة “ألانا” لدى الفرد العادي في إقامة أنماط سلوكية تتفاعل بكفاءة مع احتياجات المواقف البيئية وتتراكم هذه الأنماط بعضها فوق لتكون في نهاية المطاف “شبكة يلوكية” يمكن أن نطلق عليها “أسلوب الانسان في الحياة ” وغالبا ما يصبح معظم هذا السلوك واقعا تحت تأثير السيطرة الفكرية الواعية للفرد وعند مجابهة الفرد العادي نوعا من التهديد أو الخطر الداهم فان سلوكه ينتقل من منطقة التحكم الشعوري الى منطقة التحكم الا شعوري وهنا يحدث الاضطراب السلوكي للفرد.
ويتضمن الاضطراب السلوكي كل فعل “عنيف” يصدر عن الفرد ويمكن القول بان العنف استجابة سلوكية تتميز بصيغة ان فعالية شديدة قد تنطوي على انخفاض في مستوى البصيرة والتفكير ، فنحن نقول فلان يحب بعنف أو يكره بعنف أو يعاقب بعنف وعلى ذلك فليس من اللازم ان يكون العنف قرينا للعدوان السلبي وليس من اللازم ان يكون العنف ملازما للشر والتدمير حيث قد يكون العنف ضرورة في موقف معين وظروف معينة للتعبير عن واقع معين أو تغيير واقع معين تغيرا عميقا جذريا يقتضي استخدام العنف في العدوان . وثمة سؤال نطرحه في هذا الصدد: هل يعزي العنف للاغتراب ؟ وللإجابة على هذا السؤال تقرر بداية بأن للاغتراب أعراضا منها اللامعيارية وهو اضطرار الانسان القرد التي تبني واتخاذ وسائل منحرفة ومستهجنة اجتماعيا عند تحقيق أهدافه واللامعني الذي يشير الى قصور الفرد وعجزه عن أخذ أي قرار في مسألة ما وعدم ادراكه بما يجب عمله وإحساسه بأنه في مواجهة رؤى ضبابية للأمور واللاهدف Purposelessness ونعني به إحساس الفرد بالفقدان والضياع وكأنه قشة في مهب الريح تقذفه الأعاصير والأنواء ويضبع من قدمه الطريق كما أن العرض الرابع من أعراض الاغتراب اللا قوة يعني بها إحساس الفرد بعدم قدرته أو فاعليته أو تأثيره في من حوله من الناس والمواقف ويبدو العض الخامس في العزلة Isolation التي تعني انسحاب الفرد وانفصاله عن مجريات أمور الحياة الاجتماعية والثقافية واتباع مجموعة قيم ومبادئ غريبة يجعلها شعارا لحياته ليسير على منوالها ليصبح بعد ذلك عاجزا وقاصرا عن مسايرة الأحوال ومجاراة الظروف الحادثة في المجتمع والعرض السادس هو التشيوء ويطلق عليه أحيانا “التمدية” التي ترى أن الفرد يعتبر معاملة الأشياء المجددة كما لو كات أشياء عادية . أما عن العرض السابع والأخير فهو ” الترد الذي تعني به مقاومة الفرد لكل نافع ومفيد للمجتمع وعدم امتثاله ومسايرت للضوابط الاجتماعية والميل الى السلوك العدواني .
وبعد هذا السرد السابق للاغتراب ومفهومه وأعراضه يرى الباحث أن العلاقة وطيدة بين ” العنف والاغتراب ودليل ذلك من يتمرد على الواقع والمجتمع فانه يتطلع الى تدمير وهدم الآخرين ومن ثم يجد نفسه وحيدا معزولا يعيش مغتربا إذا عاش وهكذا مكتوب على الانسان حال من حالين كلاهما مر فأما ان يتنازل عن حريته لمن سلمه الزمام ويغترب واما ان يدمره ويفنيه .
نتعرض لهذه الدراسة المتأنية عن ظاهرة العنف والإرهاب بعيدا عن الصخب الذي يدور حاليا بعد أعمال العنف التي حدثت في أمريكا ورد الفعل العكسي الذي يدعو لانتقام ، والتحليلات المتسرعة التي ظهرت للربط بين العنف والإرهاب والدين .
المصدر: د.عزت الطويل أستاذ علم النفس بآداب بنها جامعة الزقازيق