القدس وطوفان الأقصى
القدس وطوفان الأقصى
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
لو اتيح لي تسمية عملية «طوفان الأقصى» باسم آخر لأسميتها « سيف القدس الثانية»، وكثرة الأسماء دلالة على التقدير والتعظيم، ويبدو المسميان «القدس – الأقصى» مترابطين في وحدة العلاقة بين الجزء والكل، أوردت صفقة ترامب أن «القدس هي العاصمة الموحدة لدولة اسرائيل»، وتختلق الصفقة قدساً جديدة يمكن للفلسطينيين تسميتها عاصمتهم، وهي جزء من محافظة القدس الشرقية، تضم كفر عقب وشعفاط ( خارج السور)، وأبو ديس والعيزرية (الملاصقتان للجزء الشرقي من مدينة القدس، والمسجد الأقصى في جهة الغرب من أبو ديس)، أي أن المسجد الأقصى المبارك يقع في الجانب الإسرائيلي، وتدعي الصفقة أن الوضع هذا يسمح للناس من جميع الأديان بالصلاة في «جبل الهيكل» بطريقة تحترم ديانتهم مع الأخذ بعين الاعتبار أوقات الصلاة والأعياد.
استغلت إسرائيل سلبيات ما بعد معركة «سيف القدس»، فأعادت طرح مشاريع السلام الاقتصادي بديلاً عن التقدم نحو الحل السياسي العادل والشامل، وتغولت في مشاريع التهويد في القدس وباقي أنحاء الضفة المحتلة، مؤكدة على الاستيطان وتكثيفه، واستمرت اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، وتصاعد إجرام قوات الاحتلال والعصابات الصهيونية، وتصاعدت حملات الاجتياح للمدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، ونشطت حملات الاعتقالات والاغتيالات في الضفة.
وخلال احتفالاتهم بعيد العرش اليهودي قام المئات من المستوطنين وعلى مدار 3 أيام باقتحام باحات المسجد الأقصى بحماية ودعم من الشرطة الإسرائيليّة التي منعت الفلسطينيين من دخول باحات المسجد وأداء مناسكهم واعتقلت العشرات.
ومن هنا جاء السؤال عن «سيف القدس الثانية»، فأجاب عليه إعلان القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف، ببدء عملية «طوفان الأقصى» رداً على الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المسجد الأقصى المبارك واعتداء المستوطنين الإسرائيليين على المواطنين الفلسطينيين في القدس والضفة والداخل المحتل وتدنيس الإسرائيليين للمسجد الأقصى وتجرؤهم على مسرى الرسول.
اعتبرت جهات أخرى أن اقتحامات المسجد الأقصى الواسعة والمستمرة من قبل المستوطنين ووزراء في حكومة العدو تصعيد خطير للحرب الدينية، وسط تحذيرات من تبعاته الخطيرة. ولاسيما بعد أن عقد نتنياهو اجتماع حكومته تحت الأقصى احتفالاً بالذكرى الـ56 لاحتلال القدس في اليوم الثاني لوقف إطلاق النار إثر معركة «سيف القدس» (22 أيار/ مايو 2021)، حيث قال نتنياهو أن عقد جلسة الحكومة في هذا المكان يمثل رسالة للرد على الخطاب الأخير لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي أكد فيه أنه لا علاقة لغير المسلمين بالمسجد الأقصى.
وبعد اقتحام المسجد الأقصى من جهة باب المغاربة على شكل مجموعات متتالية، وتنفيذ جولات استفزازية في ساحاته، وتلقي شروحات عن «الهيكل» المزعوم، وأداء طقوس تلمودية في المنطقة الشرقية منه وقبالة قبة الصخرة، اكتفت السلطة الفلسطينية ودول عربية وإسلامية بالتنديد غير المجدي باقتحام بن غفير للمسجد الأقصى على رأس مجموعة من المستوطنين، وبحماية الجيش والشرطة الإسرائيلية، وقال بن غفير تعليقاً على اقتحام المسجد الأقصى: «هذا المكان هو الأهم لشعب إسرائيل وإليه يجب أن نعود ونظهر سيادتنا عليه».
وتدعي الخرافات اليهودية أن إزالة الأقصى من شأنه أن يقود إلى هيكل سليمان المدمر، ولأن شروط الهدم لم تتوفر حتى الآن أفسحت سلطات الاحتلال لحل مؤقت يقوم على التقاسم الوظيفي، كما حصل في المسجد الابراهيمي في الخليل، والحسابات الإسرائيلية الآن تعتبر الأماكن المقدسة ولاسيما المسجد الأقصى وما حوله جزءاً لا يتجزأ من القدس «عاصمة اسرائيل الموحدة» تخضع كلها للسيادة الإسرائيلية كأي شبر من أرض القدس.
مدينة القدس أصبحت محاطة بكم من المستوطنات، وبكم من المستوطنين لم تكن بهذه الأعداد، ولم تكن محاطة بجدار فصل عنصري يفصلها عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية.
«سيف القدس» وغيرها من المعارك التي خاضتها غزة ضد العدوان الإسرائيلي، أتثبتت وقائعها ونتائجها وحدة الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وأكدت التفافه حول مقاومته، ومكانة القدس في إطار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، باعتبارها جوهر القضية الفلسطينية، وفرضت المقاومة الفلسطينية في ذلك الوقت أيار/ مايو2021 «معادلة غزة- القدس» لوقف عملية التهويد الجارية على قدم وساق في المدينة المقدسة، والتقاسم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى، لكن ما لبث المستوطنون، بعد اتفاق وقف إطلاق النار، أن عادوا إلى اقتحام المسجد الأقصى، وبالغت شرطة الاحتلال في التضييق على سكان حي الشيخ جراح وقمع احتجاجاتهم.
تفجرت أحداث «سيف القدس» مساء يوم جمعة الواقع في 7 مايو 2021 الموافق 25 رمضان 1442، بعدما اقتحم آلاف من جنود الشرطة الإسرائيلية -في عمليةٍ استفزازيةٍ- باحات المسجد الأقصى واعتدوا على المصلين ما أسفر عن إصابة أكثر من 205 مدني فلسطيني في المسجد الأقصى وباب العامود والشيخ جراح. كما وقعت مواجهات عنيفة صباح يوم الاثنين 10 مايو 2021 الموافق 28 رمضان 1442 هـ بعد اقتحام آلاف من أفراد الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى وأسفرت عن إصابة أكثر من 331 مدني فلسطيني كان بينهم 7 حالات خطرة للغاية ومسعفون وصحفيون في المسجد ومحيط البلدة القديمة.
مما دعا إلى طرح التساؤل التالي: هل نشهد قريباً «سيف القدس الثانية»؟ رداً على الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المسجد الأقصى المبارك واعتداء المستوطنين الإسرائيليين على المواطنين الفلسطينيين في القدس والضفة والداخل المحتل عام 1948، وكان من أسئلة الاستغراب والحيرة: هل تشارك كتائب القسام أم لا تشارك ؟.
وهل تلعب حركة حماس دور السلطة بدلاً من دور المقاومة مرة أخرى؟. لاسيما أن قواتها لم تشارك في معركة «سيف القدس»، لكن الآن وبعد ما يقارب السنتين وخمسة شهور من تاريخ معركة «سيف القدس» تجيب على ذلك معركة «طوفان الأقصى».
لقد تم ضم القدس الشرقية منذ العام 1967 كـ«عاصمة موحدة غير مقسمة لدولة اسرائيل»، ومازالت مشكلة سكانها لم تجد لها حكومات اسرائيل الحل المناسب، وتتردد في أن يصبح حاملو البطاقة الزرقاء مواطنين في دولة إسرائيل، منحت صفقة القرن ثلاث خيارات للسكان المقدسيين، كما يلي: أن يصبحوا مواطنين في دولة اسرائيل، أو أن يصبحوا مواطنين في دولة فلسطين، أو الاحتفاظ بوضعهم كمقيمين دائمين في اسرائيل، وتعمل الحكومات الإسرائيلية بشكل دائم على تجرّيد العديد منهم من حقهم في الإقامة لأسباب مختلفة وواهية.
ولم يكن الحراك السياسي في كل المستويات العربي والإسلامي والدولي بمستوى الحدث وخطورته، ولم ترتقِ إلى الرد العملي والفعلي على الإجراءات الإسرائيلية في القدس والمسجد الأقصى، مما شجّع إسرائيل على إصدار قرارات مضمونها استمرار سياستها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، واستمرار سياستها الاستيطانية التهويدية، فبعد القرار الأمريكي، وردود الفعل الباهتة عليه، جاء قرار الحكومة الإسرائيلية ببناء مليون شقة استيطانية في السنوات العشر القادمة منها 300 شقة في القدس لإغراق المدينة المقدسة بمليون مستوطن جديد، وجاء قرار إداري من بلدية القدس بفصل 140ألف فلسطيني من كفر عقب و مخيم شعفاط عن الحدود الإدارية لما يسمى «القدس الكبرى» للإخلال بالتوازن الديمغرافي في المدينة تمهيداً لتهويدها، وجاء مشروع قرار من الكنيست بتطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنات، ما يعني عملياً ضمها لإسرائيل، وجاء قرار آخر من مركز الليكود بضم الضفة الغربية كاملة، مع الحفاظ على حكم إداري ذاتي للفلسطينيين فيها.
قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، وكان الرد العملي على قرار ترامب في الهبة الشعبية التي شهدتها المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في القدس والضفة والقطاع وداخل مناطق الـ48 وفي الشتات والمهاجر، لكنها لم تتحول إلى انتفاضة شعبية شاملة.
مركزية قضية مدينة القدس كمدينة تضم مقدسات شعبنا، ومركزية المسجد الأقصى كمعلم اسلامي ومسرى الرسول يحتلان مكانتهما الهامة في وجدان شعبنا الفلسطيني وعموم العرب والمسلمين، فالقدس عاصمة لدولة فلسطين المستقلة، وموضع نزاع سياسي وأيديولوجي في ظل ادعاء صهيوني بأنها عاصمة اسرائيل، وفي ظل خرافة بناء الهيكل الثالث على أنقاض الحرم القدسي، وبالتالي فإن مدينة القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية في الوجدان الفكري والديني لشعبنا، وانطلاقاً من مركزية موقعها السياسي في القضية الوطنية، ليست مطروحة على الإطلاق على بساط البحث، ولا تخضع لأية مساومة، وهي عامل استنهاض وطني عام، شكلت تهديدات سلطات الاحتلال لها وللحرم القدسي عنصر تفجير شعبي شامل، اعتداءات المستوطنين واقتحامهم المسجد الأقصى، وتظاهراتهم واحتفالاتهم المستفزة وتواجد الجيش المكثف على بوابات المسجد الأقصى، عامل توتر دائم، يساهم في تجاوز كل مظاهر الانقسام والخلاف السياسي في الحالة الفلسطينية، ويؤدي إلى وحدة القوى السياسية والمرجعيات الروحية ووحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة الهدف، ووحدة الشعارات، مما يوجد حالة شعبية شديدة التماسك رفضت المساومة وتصدت لكل أشكال القمع، في ظل قناعة راسخة بأن دحر إجراءات سلطات الاحتلال وإلغاءها، هو السبيل الوحيد لصون المقدسات، وصون عروبة المدينة، وفي هذا السياق تجلت كذلك وحدة المرجعيات الروحية المسلمة والمسيحية التي شكلت هي الأخرى عاملاً إضافياً في الفوز في المعركة.
شكلت قضية القدس محوراً رئيسياً في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كانت باستمرار أحد أهم عوامل جولات المعارك والهبات والانتفاضات الشعبية التي اندلعت وتصاعدت، لم تفهم اسرائيل أن مدينة القدس المحتلة خط أحمر ليس فقط للفلسطينيين بل لكل العرب والمسلمين، وأن استمرار المخطط الإسرائيلي في تهويد المدينة والمقدسات سيؤسس لصراع ديني يؤدي إلى حرب يهودية اسلامية.
فبالنسبة للمسلمين المسجد الأقصى خط أحمر، وكل الاحتمالات مفتوحة بما يخص أكثر القضايا اشتعالًا وخطورة، ويزيدها اشتعالاً أطماع الحكومات الصهيونية المتطرفة ولا سيما حكومة الثلاثي المتطرف نتنياهو- بن غفير -وسموتريتش.